مقالات سياسية

الجنوب السودان .. الانفصال القادم

switch off icon switch on icon

الذين يقرءون التاريخ بأثر رجعي 16/2/1992م

هكذا عرف العالم مناطق الجنوب

جريدة الراية بقلم: بابكر عثمان

ظلت قضية جنوب السودان تراوح مكانها منذ استقلال السودان عام 1956م وكان الجهل بالمجريات العامة في هذا الشأن هو السمة الغالبة سواء في الجانب السوداني أو الجانب الجنوبي .. واتسم موضوع الأزمة بالتعقيد الشديد، ونعلم جميعًا سودانيين وجنوبيينأن هناك حساسية بالغة حين الحديث عن الانفصال كواحد من الحلول التي يمكن طرحها.

ومن خلال المعطيات والمؤشرات في الساحة السودانية والعالمية أصبح الحديث عن انفصال الجنوب أمرًا لا يسبب حرجًا لأي طرف معني بالأزمة، ولأول مرة أصبحت الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تقود حرب عصابات منذ ثماني سنوات تتحدث عن إمكانية ذلك بأسلوب يقرب إلى الصراحة أحيانًا.

فكرة هذا الكتاب تنطلق من قاعدة أن الصراحة في طرح الخيارات المتاحة هي أفضل الوسائل للوصول إلى رأي عام يدفع في طريق الحل الجذري والشامل.

وعندما يبشر الكتاب بالانفصال فإن هنالك الكثير من المؤشرات قد تم رصدها وتحليلها. وليس هذا فقط، بل إن العودة إلى استقراء التاريخ كان أفضل معين يمكن الغرف منه لاستجلاء الحقائق وتدعيم وجهات النظر.

هنالك حقائق تم إبرازها ولها أهمية كبيرة في فهم جذور النزاع منها أولاً: أن العودة إلى التاريخ القريب وخاصة في الربيع الأخير من القرن الماضي 1870 – 1898م أكدته أن عددًا من التصورات أدت إلى نتائج خاطئة، إضافة إلى أن هناك جهات أجنبية خططت ونفذت استراتيجياتها في المنطقة الشمالية لمنابع النيل، وكان من مصلحتها أن تتبع بعض هذه الأقاليم إلى السودان.

ثانيًا: من المؤكد أن شعب الجنوب تم إهمال رأيه على مدى قرن كامل منذ أن دخلت منطقة طلائع الاستعمار ولم يتم استفتاؤه حلول مستقبله كما لم يمنح حق تقرير المصير وتم تجاهل رغباته التي عبر عنها بعض أبنائه بشتى الوسائل، بل إن أولئك الذين تولوا حكمه على مدى هذا القرن (1870 – 1989) حاولوا استمرار طمس هويته وإنكار حقوقه في محاولاتهم لإخضاعه.

ثالثًا: أثبتت التجارب وقد رصد الكتاب بعضها أن إمكانية التعايش بين الشعبين في ظل الصيغة الراهنة صعبة إن لم تكن معدومة، فقد تبادل الشعبان تدبير المذابح إضافة إلى إشعال حرب مستمرة منذ الاستقلال عام 1956م.

فهل هنالك إمكانية للتوصل إلى حل ناجز لنبدأ القصة من بدايتها ونعود إلى القرن الماضي، فقد تمكن قائدان صغيران هما (إسماعيل باشا) و(محمد الدفتردار) من التوغل بجيشهما الهزيل والممزق إلى عمق السودان وسيطرا على مملكة سنار وملكة المسبعات كل على حدة في ظرف سنة واحدة (1820 – 1821م). وإذا اعتبرنا أن التوسع الجغرافي كان الهدف الأهم بالنسبة لمصر من غزوها للسودان، فإن بعض الأهداف الحيوية الأخرى رؤى في ذلك الحين أنها عاجلة مثل جلب الرقيق أو التنقيب عن الذهب. وهذه المهمات شرع إسماعيل باشا في تنفيذها بمجرد استتباب الأمن في المناطق التي أخضعها. ثم قاد جيشًا صغيرًا بنفسه وحاول التوغل إلى مناطق القبائل الجنوبية لجلب الرقيق، ولكنه فشل في هذه المهمة فشلاً ذريعًا لأن هذا التوغل تطلب إمكانيات أكبر مما هي متاحة، ومن الجهة الثانية عرف بمجرد مغادرته إلى المناطق جنوب كوستي أن استتباب الأمن في غيابه مجرد خرافة لأن الكثير من الاضطرابات حدثت في مدني وسنار مما اضطره للعودة لقمعها.

وعندما هم بالعودة إلى مصر بعد سنتين من فتحه للسودان لم يكن ما أرسله من رقيق تجاوز رقم الخمسمائة كما فشل في الحصول على مبتغاه من الذهب.

الملفت للنظر أن محمد علي باشا لم يأمر ابنه باسترقاق أهل الشمال بعد السيطرة على مناطقهم وممالكهم وفهم إسماعيل أن الأمر بإرسال الرجال القصد منه استرقاق الزنوج لذلك لم يفكر إلا في غزو مناطقهم جنوب كوستي التي لم تكن في وقت من الأوقات خاضعة للممالك السودانية.

ويعتبر من ناحية تاريخية أن فتح السودان قد فتح الباب على مصراعيه لحملات لطب الرقيق التي بدأت تغزو الجنوب وقادها مصريون وسودانيون وأوروبيون، وقدر عدد النخاسة الذين يعملون في هذه المهنة عام 1869م بحوالي 15 ألف رجل.

وبعد أن استتب الأمر للمصريين في السودان أحيوا حلمهم القديم للسطيرة على منابع النيل، وقد شجع محمد علي باشا الدراسات التي قام بها الأوروبيون في هذا الصدد، وفيما بعد قام صمويل بيكر بتتبع مجرى نهر النيل الأزرق إلى منابعه في المرتفعات الأثيوبية بتشجيع من مصر، ورغم ذلك كانت منطقة جنوب كوستي غير معروفة على وجه اليقين، فحملات اكتشاف منابع النيل انطلقت من شرق أفريقيا في الستينات من ذلك القرن وقادها أوروبيون نذكر منهم بيرتون، وسبيكوليفنجستونمن بريطانيا وستانليمن الولايات المتحدة، والأخير كان يعمل صحفيًا ذهب إلى أفريقيا للبحث عن ليفجستون الذي اختفى وأصبحت رحلته، ثم انقطاع أخباره مصدر إثارة صحفية وألهب مشاعر الأوروبيين، وفي أثناء تجوله عثر ستانليعلى البحيرة التي ينبع منها نهر النيجر وسميت باسمه، كما عثر على ليفنجستونالذي كان مريضًا بالملاريا حينها وسط قبلية متوحشة هناك، وهو في الأصل يعمل مبشرًا وكان البحث عن المنابع أمرًا حيويًا لأنها الوحيدة التي ظلت مجهولة حتى ذلك الوقت، ومعظم الرحلات مولتها الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.

ومع نهاية عقد الستينات تم اكتشاف كل المنابع ودخل الرجل الأبيض إلى المنطقة لأول مرة ولكن كانت هنالك منطقة مجهولة تقع بين المنابع وجنوب كوستي وتسكنها قبائل مجهولة، إضافة إلى ذلك كانت مرتعًا خصبًا لتجارة الرقيق.

بيكر يفتح الجنوب:

في القرن التاسع عشر وظفت بريطانيا قدراتها العسكرية والسياسية لمحاربة تجارة الرقيق، وإذا كان الغزو العسكري يهدف في نظر دول أوروبية كثيرة مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا إلى التوسع الجغرافي واستغلال الثروات والسيطرة على الشعوب ونشر الحضارة فإن بريطانيا أضافت سببًا آخر هو محاربة تجارة الرقيق.

ولهذا السبب سيطرت على بعض المناطق والموانئ ومنها ميناء ممبسا على المحيط الهندي وكان منفذًا حيويًا لتصدير الرقيق الذي يستجلب من المناطق القريبة من منابع النيل، ونجحت المهمة البريطانية ولكن كان هنالك رقيق يصطاد من المناطق الشمالية للمنابع ويصدر إلى مصر وتورط في هذه المهنة حكام انتدبتهم مصر لحكم السودان، فتوجب العمل على وقف هذا النزيف البشري.

كانت مصر في الستينات من ذلك القرن يحكمها رجل تعلم في أوروبا هو الخديوي إسماعيل الذي وصف بأنه كان مستنيرًا ويمتاز بكونه من رجال الأعمال الذين يفضلون الإنتاج وتضاعف رأس المال على الملكية العقارية الثابتة للأرض أو البهائم أو الرجال” .. هذا الحاكم حاول إحياء الحلم المصري القديم بالتوسع في إفريقيا فوضع خطة لذلك.

وهنالك سبب آخر ففي ذلك الوقت تورط إسماعيل في أزمات مالية خطيرة بسبب بذخة واستهتاره لذلك وصلت ديونه إلى ما يقرب من ستين مليون جنيه.

وكان يرغب في تلقي المزيد من العون المالي والفني من أوروبا إضافة إلى رغبته في الاحتفاظ بعلاقات جيدة معها، فأصبح مستعدًا لتنفيذ كل الأوامر الصادرة إليه، وهو يعرف بثقافته الواسعة وباطلاعه المستمر وبتتبعه للتطورات السياسية الجارية أن تجارة الرقيق أصبحت مرفوضة على نطاق واسع وأن الحكومة البريطانية قررت تشديد الحرب عليها في جميع أنحاء العالم وهو يعلم علم اليقين أن رجاله في الخرطوم متورطون بشكل من الأشكال في ممارستها وأن ذلك ارتبط بسمعة حكمه.

كان أنسب رجل يقوم بمهمة ضم المناطق الجنوبية حتى منابع النيل إلى الامبراطورية المصرية ويعمل على إنهاء تجارة الرقيق هو صمويل بيكر، ذلك الإنجليزي الذي ارتبط اسمه باكتشاف بحيرة البيرتكما سبق له القيام بزيارة إلى السودان مع زوجته في طريقه إلى اكتشاف بحيرة تانافي المرتفعات الأثيوبية أتاحت له معرفته باللغة العربية أن يعود إلى منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى عام 1869م مترجمًا لولي العهد البريطاني الذي يزور مصر للمشاركة في احتفالات افتتاح قناة السويس في ذلك العام. وأثناء الاحتفال انتحى به الخديوي إسماعيل جانبًا وعرض عليه مهمة قادة حملة عسكرية إلى مناطق الجنوب لإخضاعها للحكم المصري والقضاء على تجارة الرقيق. ولم يتردد سير بيكر في القبول بهذه المهمة الحيوية، فالمبلغ الذي عرض عليه لا يحلم به أحد في ذلك الزمان فقد عرض عليه توقيع عقد بمبلغ 40 ألف جنيه استرليني لمدة أربع سنوات وتلبية جميع طلباته من الجنوب والعتاد والتسهيلات السياسية.

ووصف الآن مورهيد الذي وضع كتابًا يحمل اسم النيل الأبيضهذه الشروط بأنها سخيةفهو سيصبح باشا وميجر جنرال ويختار أركان حربه أما القوة التي يقودها فتتالف من 1700 رجل وكان مطلق اليد في شراء العتاد لهم. ويضيف مورهيد: “لو أن رجلاً غير بيكر يفوقه في الفكر السياسي صادف هذا العرض لكان من المحتمل أن ينظر إلى هذه الشروط بشيء من التوجس“.

التوغل جنوبـًا:

ولنعد إلى بيكر الذي اختار جنوده من مصر والسودان ومعظمهم كانوا نزلاء في السجون في البلدين وتعتبر المشاركة في هذه الحملة نوعًا من الحرية بالنسبة لهم.

وتسلم مهامه رسميًا عندما أصدر الخديوي فرمان أعلن فيه أنه نظرًا للحالة الهمجية السائدة بين القبائل القاطنة في حوض نهر النيل ونظرًا لأن هذه النواحي المذكورة ليس بها حكومة ولا قوانين ولا أمن ولأن الشرائع الإنسانية تفرض منع النخاسة والقضاء على القائمين بها والمنتشرين بكثرة في تلك النواحي ولأن تأسيس تجارة شرعية في هذه النواحي يعتبر خطوة واسعة في سبيل نشر المدنية ويفتح طريق الاتصال بالبحيرات الكبرى الواقعة في خط الاستواء بواسطة المراكب البخارية، ويساعد على إقامة حكومة ثابتة لذلك قررت الخديوية إدماج هذه المناطق“.

وبعد عام – أي في فبراير 1970م – كان صمويل بيكر على أهبة الاستعداد للانطلاق إلى أعالي النيل من الخرطوم يعاونه عشرة من الأوروبيين أصبح لبعضهم دور هام في تاريخ المنطقة فيما بعد، وكانت ليدي بيكر هي المرأة البيضاء الوحيدة التي رافقت الحملة والتي قدر لها فيما بعد أن تُصبح أول امرأة بيضاء تدخل هذه المنطقة.

إنها رحلة شاقة تلك التي قطعتها الحملة حتى وصلت إلى غندكرو في مايو 1871م بعد عام كامل من المشاق والمتاعب، فالسدود كانت أكبر عائق واجههم ولم تكن توجد مقاومة من الجنوبيين في باديء الأمر.

وفي غندكرو والتي وجدت بها بعثة نمساوية للتبشير نظم بيكر عرضًا لألف ومائتين من جنوده في أزياء عسكرية نظيفة ورفع العلم العثماني على صار ارتفاعه ثمانون قدمًا وأعلن بصوت مهيب ضم البلاد التي حوله إلى مصر، فأصبحت تعرف باسم مديرية خط الاستواءوفي هذا الوقت لم يكمن هنالك من يسجل المنظر للعالم الخارجي ولا من يشاهده سوى رجال قبيلة الباربا العرايا الذين لم يفهموا شيئًا مما كان يجري” – حسب وصف مورهيد – وأخذوا يشنون غارات ليلية على المعسكر.

ولم يتوقف بيكر عند منطقة غندكرو بل تقدم جنوبًا في اتجاه بحيرة فكتوريا، ولكن قلة الجنود ووعورة الأرض وعداء الأهالي منعت تحقيق أهدافه كاملة، ورغم ذلك وصل إلى بلاد (الأونيورو) – أوغندا الحالية – وكانت عاصمتها مازندي على ضفاف بحيرة البيرتوبيكر يعرف هذه المناطق حق المعرفة، فقد سبق له زيارتها قبل أقل من عشر سنوات وكان آنذاك يعمل لحساب الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.

وعند وصوله إلى مازندي والتي وجد فيها استقبالاً جيدًا من ملكها كاباريجاوتحت تأثير هذا الاستقبال رفع العلم المصري وأعلن ضم هذه الأراضي للخديوية، وقال لكاباريجا ذلك الشاب المستهتر قليل الخبرة أنه جاء إلى هنا باسم الصداقة ، غير أن هذه الحملة بعين الشك وبعد فترة لاحظ بيكر أن أسلوبه تغير وأنه على وشك الهجوم على معسكره، فجمع جنوده واستعد للمعركة، وفي الوقت المحدد أصدر أوامره بإحراق المدينة، ثم غادرها بعناء شديد مخلفًا وراءه الحرائق والقتلى والخراب.

وكان قبلها في غندكرو ارتكب عددًا من الفظائع التي لم يجد لها المؤرخون تبريرًا سوى أنها ضرورة للبقاء في مناطق متوحشة مثل الاستوائية ويوغندا.

الإرهاب ضرورة استعمارية:

وخلال عامين وقبل أن تنتهي مدة العقد أشعل بيكر حربًا في المنطقة لم يجد مؤرخ مثل آلان مورهيد وصفًا لها أفضل من القول إنها قصة حرب استعماريةوقال في تبرير ذلك أنه من عدم الإنصاف ومن الانسياق وراء العاطفة أن ننظر إلى الاستعمار على هذا الضوء ولا سيما في أواسط أفريقيا فقد كان ثمة منطقة شاسعة تركت دون أن تمس عبر القرون ولعله من الخير أن تترك كذلك فإن القبائل المحلية كانت صالحة برغم ما فيها من وحشية وآلام وعدم طمأنينة ولكنها في الواقعه لم تترك وشأنها، وكأي مؤرخ غربي حاول مورهيد التحامل على العرب بقوله إن التجار العرب نفذوا إليها دون غرض سوى الكسب الشخصي“.

ومما لا يستطيع المؤرخ نفيه أن هنالك تجارًا عربًا من السودان أو عربًا من الجزيرة العربية دخلوا المنطقة بدافع الحصول على العاج وسن الفيل والعسل وبقية المنتجات المحلية الأخرى، وكان البعض القليل منهم شارك في حملات جلب الرقيق، ولكنهم جميعًا لم يستعملوا لتحقيق هذه الأهداف، السلاح لإرهاب الأهالي أو إجبارهم على التعاون، وقصة الزبير باشا في بحر الغزال وأبو السعود في الاستوائية خير مثال مما سيرد ذكره.

وأبو السعود برز اسمه كواحد في أولئك الذين وضعوا العراقيل أمام بيكر في الاستوائية، وذلك من خلال تأليبه الأهالي ضد الحملة وتصويرها تصويرًا بشعًا، فأولئك العرايا الذين وقفوا ينتظرون إلى جنود بيكر بزيهم العسكري الموحد والنظيف نظرة استغراب ودهشة وهو يستعرضهم في غندكرو صبيحة اليوم التالي لوصوله، هؤلاء العرايا أنفسهم أقنعهم أبو السعود بعدم بيع الحملة ما تحتاجه من طعام ومنتجات محلية أخرى.

وبعد أيام من الوصول إلى قوات تعدادها حوالي 1700 جندي، فإذا بـ 1200 جندي منهم ينضمون إلى أبي السعود ويغادرون المنطقة هاربين إلى الخرطوم وتضافرت العوامل الطبيعية والبشرية ضد بيكر، ذلك الرجل الذي كان في دخيلته حكيمًا وقويًا وصبورًا حسبما وصفه مورهيد .. وأضاف لكن حظه العاثر قاده إلى عملية الاستعمار في أفريقيا الوسطى تحت رعاية الخديوي إسماعيل، الذي كانت تحيط بأغراضه الشبهات وفي أقسى وأوعر لحظاتها، فكان على حملته أن تقاتل دفاعًا عن حياتها ولو لم يستخدم أساليب الشدة لما فشل قط، بل مات.. فهو قد صد القبائل عند غندكرو ثم حاربها حينما امتنعت عن بيعه الطعام وغزا قراها وأخذ قطعان الماشية بالقوة.

وخلال السنتين اللتين قضاهما في المنطقة أنشأ ثلاث محلات في غندكرو وفاتيكو وفويرا، وتعتبر الحملة رغم ذلك فاشلة بالنظر إلى أن عملية الفتح والضم لم تتم، كما كان مقدرًا لها، وعاد إلى الخرطوم ولكن قبل أن يصلها بعث أمامه بتلغراف يبرق ضرورة القبض على أبي السعود وتقديمه للمحاكمة لأنه السبب في كل هذه العراقيل والاعتداءات المتكررة من الأهالي“.

هذه الحملة كلفت ثلاثمائة ألف جنيه مصري، ولنقرأ الآن في يوميات بيكر التي سجل فيها قبل أن يغادر المنطقة نهائيًا في مارس 1873م وهو يتأهب للرحيل: “وأخيرًا انهزمت كل معارضة وانصاعت الكراهية والتمرد للنظام وبسطت حكومة راعية حمايتها على الأراضي التي كانت من قبل ميدانًا للفوضى وتجارة الرقيق، فقد طهر النيل الأبيض مسافة 1600 ميل من الخرطوم إلى أفريقيا الوسطى وإنجاب كل غيم وانقضت مدة بعثتي في سلام وبهذه النتيجة نشدت متواضعًا بركة الرب“.

ولكن هل فعلاً بسطت الحكومة سيطرتها الكاملة على هذه المنطقة؟

إن الإجابة على هذا السؤال تكشف بوضوح عما إذا كان مقدرًا لهذه المنطقة في المستقبل أن تدين إلى حكم مصري، فهو غادر المنطقة والعلم المصري يرفرف على ثلاثة أكواخ حقيرة في غندكرو وفاتيكو وفويرا، ولكن نفوذ الحكومة لم يكن يتعدى أميالاً بسيطة من تلك المحطات، وترك محمد رؤوف بك مديرًا لها وهو مصري رافقه في فتوحاته.

في الحلقة القادمة نواصل الرحلة إلى الجنوب لنرى ماذا فعل تشارلس غردون هناك.

د.عبد العظيم الديب