و رحل عاشق الجويني الزاهد عبد العظيم الديب
عبد العظيم الديب.. العالم الرباني هذا هو أدق وصف له.. يعلمك بنظراته، كما يعلمك بكلماته... كان رحمه الله مربيا بضحكته إذا ضحك، وبابتسامته إذا ابتسم، وبهمسه إذا همس. وبصمته إذا صمت.أراه ـ والله حسيبه ـ كان عالما ربانياً، وذلك لأنه علِم وعمل وعلّم.
لقد رحل عبد العظيم الديب ولعلي أكون آخر من زاره في بيته، فقد لقيته في يوم الجمعة الماضية وجلست معه ثلاث ساعات ونصف أحدثه ويسمع إلي، ولم أكن أشعر أن هذا هو اللقاء الأخير ولكنني خرجت من عنده، وأنا أتذكر قول الشاعر:
وإذا النفوس كن كباراً تعبت في مرادها الأجسام
إن عبد العظيم الديب يعد من الندرة بمكان، وأحسب أن الشاعر قد قصده حين قال:
وجد القنوط إلى الرجال وإليك لم يجد القنوط سبيلا
ولرب فرد في سمو فعاله وعلوه خلقاً يعادل جيلاً
ولكني اليوم أقول ما قاله علي رضي الله عنه: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف مثله وما أحسن قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاه تموت ولا بعير
ولكـن الرزية فقـدُ حـرٍّ يموت بموت خلفه كثير
وكان والله حرّا. لم يجامل أحدا، ولا مالئ أحدا، وإنما كان جرئيا في الحق، يسكت إذا كفاه غيره الكلام، لكن إذا صمت الجميع وكان الموقف يستدعي الكلام نطق بالحق، وإذا نطق ألجمت صراحته الجميع
.
و لست أدري –والله - عن أي شيء أتحدث؟
عن أخلاقه ونبله؟ أم عن همته وهمه؟ أم عن علمه وعمله؟
لن أتحدث عن العالم النحرير.
ولا عن المحقق الكبير.
ولا عن الصولي البارع
ولا عن المربي العظيم.
ولا عن العالم الغيور.
ولا عن الجبل الأشم.
ولا عن النجم الذي هوى.
ولا عن راهب العلم والفكر.
وإنما سأتحدث وبعجالة عن بعض إنسانية هذا الرجل، ومنها:
عمله في صمت
عاش عبد العظيم الديب شعاره:
كن رجلا أن أتوا بعده يقولون مر وهذا الأثر
وكان والله يخبر أثره عنه، كالوردة تنبيء عن وجودها برائحة تبعثها في أي مكان .
ولقد كان أويس القرني لهذا العصر الذي نعيش فيه...، إي والله كنت أراه كذلك- كما يراه الكثيرون غيري - إنه يذكرك بأويس القرني، أتدري أخي الحبيب من أويس القرني؟ إنه الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم" رواه مسلم. ولم يكن أويس بالمعروف لدى الناس، وهكذا كان عبد العظيم الديب. تشعر بأنه رحمه الله – والله حسيبه – ممن جاء وصفهم في الأثر: إن الله يحب الأبرار الأخفياء الأتقياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا ولم يدعوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة.
لقد عاش عبد العظيم الديب في عصر تقاتل فيه الناس من أجل الظهور على الشاشات ... واللهث خلف الصحف والمجلات، لكنه ـ رحمه الله ـ آثر أن بعيداً عن هذا كله، فلا يظهر إلا في القليل النادر، لأنه كان يرى أن الصورة التي يظهر فيها الدعاة والعلماء في وسائل الإعلام ما هي إلا كصورة (أسد السيرك) الذي يطلب ليقدم فقرة ثم يعود إلى قفصه، فهو يقدم المطلوب منه، لا المعتقد لديه. إلا من رحم ربك وقليل ما هم.... فهو أسد لكنه كما وصفه عبد العظيم الديب (أسد سيرك).
متواضعاً في غير مهانة:
نعم والله، لقد كان تواضعه يجبر كل من يراه إلى حبه وسماعه، يدخل إليه المسكين من طلبة العلم وفي جعبته القليل من العلم فيحدث الشيخ بما لديه فيسمع له الشيخ منصتاً كأنما يسمع الكلام لأول مرة حتى إذا فرغ محدثه، وخلت جعبته، تفجر الديب كالبركان، وفاضت ينابيع العلم من ثناياه، وسرد الآراء من كل حدب وصوب، وأتى بالدليل تلو الدليل كأنما يقرأ من كتاب مفتوح، أو من محاضرة أعدها.
ولكن تواضع لم يكن فيه مهانة أبدا، وإنما وعى هو كلام ابن القيم حين قال: والفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها، وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع. وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلا، ولا يرى له عند أحد حقا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز و جل من يحبه ويكرمه ويقربه. (الروح لابن القيم/233).
وأشهد بالله أنني زرته في سكنه القديم والجديد، فكان في القديم لا يغلق باب شقته حتى يدخل ضيفه المصعد، وفي سكنه الجديد ما كان يغلق بابه حتى يركب زائره سيارته وينطلق. يصنع هذا على كبر سنه واعتلال صحته
صائناً لنفسه في غير كبر
وكان عبد العظيم الديب ـ رحمه الله ـ صائناً لنفسه في غير كبر، قد يرى البعض في بعده عن الناس تكبراً، وفي خلوته تعالياً، ولكنه كما قال ابن القيم: والفرق بين الصيانة والتكبر أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوبا جديدا نقي البياض ذا ثمن، فهو يدخل به على الملوك فمن دونهم، فهو يصونه عن الوسخ والغبار، والطبوع وأنواع الآثار، إبقاء على بياضه ونقائه. فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع، ولا لوث يعلو ثوبه، وإن أصابه شيء من ذلك على غرة بادر إلى قلعة وإزالته، ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه؛ تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعا وآثارا، أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي للبياض، ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مظان التلوث، ويحترس من الخلق، ويتباعد من تخالطهم، مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين ونحوهم...
بخلاف صاحب العلو فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه فهو يقصد أن يعلو رقابهم، ويجعلهم تحت قدمه فهذا لون وذاك لون.. (الروح لابن القيم/236).
وكم ساءه صنيع بعض أهل العلم، إذ لم يصونوا العلم مما ويقدروه، وكم سمعته يقول:
يقولون فيك انقباض ، وإنما رأو رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس مَن داناهمُ دان عندهم ومن أكرمته عزَّة النفس أُكرما
ولم ابتذل في حرمة العلم مهجتي لأخدم مَن لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذِلَّةً ؟؟ إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنَّسوا محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما
رحم الله أبا محمود (عبد العظيم الديب).
رحم الله الله رحمة واسعة،،، وأسكنه فسيح جناته، وجمعه مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى يوم القيامة...
ومن قال: آمين.