وداعا صديق العمر و رفيق للدرب

switch off icon switch on icon

لقد ودَّعَنا صباح الأربعاء الماضي، 20 من المحرَّم 1431هـ الموافق 6 يناير 2010م، أخ ولا كل الإخوان، وصديق ولا كل الأصدقاء، إنه صديق العمر، وشقيق الروح، ورفيق الدرب، وزميل الدراسة والدعوة، وصاحبي في الشباب والكهولة والشيخوخة، إنه أخي الحبيب عبد العظيم الديب. لقد ودَّعَنا فجأة وبدون إنذار ولا مقدِّمات، بل مات في صمت، كما عاش في صمت، رحمه الله، وفقدت الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، والدراسات الإسلامية، فحلا من فحول العلم، وعَلَمًا من أعلام الأمة، ورائدا من روَّاد الدعوة والتربية بحقٍّ.


لقد تلاقينا منذ حوالي ثلثي قرن من الزمان، في المعهد الديني في طنطا، ونحن في مقتبل العمر، وريعان الشباب، وجمعتنا الدراسة الأزهرية، كما جمعنا الانضمام إلى دعوة الإخوان المسلمين، والتتلمذ على إمام الجماعة في طنطا الداعية الكبير الشيخ البهي الخولي، الذي كنا نلتقي عنده بعد صلاة الفجر من كلِّ أسبوع، في حلقة أطلق عليها كتيبة (الذبيح)، إشارة إلى إسماعيل عليه السلام، الذي قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].ولعل كثيرا من الناس لا يعرف مَن هو عبد العظيم الديب، لأنه لم يكن ممَّن يظهرون على الشاشات، ولا يتعرَّضون للأضواء.






عالم عامل مُعلِّم


إنه أحد العلماء (الربانيين) في هذه الأمة، والرباني - كما فسَّره السلف - هو الذي يَعْلم ويعمل ويعلِّم، فهو يجمع بين الأمور الثلاثة: العلم والعمل والتعليم. وقد قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].أما علمه، فقد شهد له به شيوخه، وشهد له به إخوانه، وشهد له به تلاميذه، وشهدت به آثاره التي خلَّفها، تأليفا وتحقيقا.




وفي شهادة أساتذته، نقل الأخ الدكتور علي السالوس زميل الديب في دار العلوم: أن المشرف على رسالة الديب للدكتوراه، الأستاذ الجليل الدكتور مصطفى زيد، قال بعد مناقشة الرسالة: إن هذه أفضل رسالة قُدِّمت إلى دار العلوم، لا أستثني رسالتي (رسالة الدكتور زيد نفسه) وقد لقيتُ الدكتور زيدا يوما بالمدينة، وهو أستاذ معار إلى جامعتها، وكان أول مَن سألني عنه، وحمَّلني السلام إليه، هو عبد العظيم، الذي أصبح صديقا من أقرب الناس إلى أستاذه.


ولثقتي بعلمه وفقهه وأصالته، كنتُ في كتبي المهمَّة، أعرضها عليه، وأطلب إليه أن يقرأها، ويبدي رأيه فيها، ويُعمل قلمه في شطب ما يرى، أو إضافة ما يرى كذلك.
وأما عمله فقد شهد له كلُّ مَن عرَفه، وكلُّ مَن عايشه - وأنا منهم - أنه كان طوال حياته رجلا عاملا لا عاطلا، وجادًّا لا هازلا، وبانيا لا هادما، يُعطي قبل أن يأخذ، ويضحِّي قبل أن يستفيد، وإذا عمل أتقن، وإذا قال أحسن، يقول ويفعل، ويَعِد وينجز، ويعاهد فيوفِّي، ويؤتمن فيؤدِّي. وكان رحمه الله عفَّ اللسان، لا يسيء إلى أحد في حضرته، ولا يذكر أحدا بسوء في غيبته، فقد شغله الحقُّ عن الباطل، وشغله العلم عن الجهل، وشغله الإيمان عن اللغو،.



وقد قال أبو الطيب:


وأكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبةٍ .. وكُلُّ اغتيابٍ جهدُ من لا له جهدُ


وقد وصف الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3].
وكان إذا وكِّل إليه عمل استفرغ فيه جهده، ووفَّى له حقَّه، صغيرا كان كالاشتراك في لجنة، أو كبيرا كرئاسته لقسم الأصول والفقه، الذي قام به حقَّ القيام، متعاونا مع كلِّ إخوانه.


ولما وكِّل إليه إنهاء الكتاب الذي تكفَّلت به (كلية الشريعة)، بمناسبة بلوغي السبعين: أخرجه خير إخراج، متعاونا مع بعض المخلصين من زملائه. وحين ضمَّ إلى وزارة الأوقاف بعد تقاعده من الجامعة، كان يقوم بما يكلَّف به بكلِّ دقة، رغم ما أُصيب به من مرض القلب.


وأما تعليمه، فقد كان معلِّما بالنظرة، ومعلِّما بالدراسة، ومعلِّما بالخبرة والممارسة، وقد علَّم أولا في المدارس الثانوية، ثم أمضى معظم حياته أستاذا جامعيًّا، وقد استكمل كلَّ مقوِّمات الأستاذ أو المعلِّم الناجح. وهي: قوَّته في المادَّة التي يعلِّمها، وتمكُّنه منها، ثم حسن طريقته في تعليمها، ثم أن تكون له شخصية تجذب طلاَّبه إليه، وهو ما توافر لعبد العظيم بجدارة، وعُرف به في جامعة قطر، ولا سيما في قسم الدراسات الإسلامية وكلية الشريعة.


والحقيقة أنِّي منذ أُنشئت (كليتا التربية) في قطر نواة للجامعة المنشودة، وكُلِّفتُ فيها بتأسيس قسم للدراسات الإسلامية، حرصتُ على أن يكون عبد العظيم بجانبي، وكان أمامه عدَّة أشهر حتى يحصل على الدكتوراه من كلية دار العلوم، فلما حصل عليها استقدمتُه، فتحمَّل مسؤوليته من أول يوم، وشدَّ أزري، وقوَّى ظهري، كما قال الله تعالى لموسي: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص:35



كان أبا وصديقا لطلابه:


وقد كان نعم العضد لي، كما كان نعم الزميل لإخوانه، كما كان نعم المعلم لطلاَّبه، وقد تخرَّجت على يديه أجيال بعضهم من النوابغ، كان لهم معلِّما وأبا وصديقا، وكانوا

يحبُّونه حبًّا جمًّا، طلبة وطالبات، لغزارة علمه، وسَعَة أفقه، ورقَّة حِسِّه، وحسن خُلقه، وتفانيه في تدريس مادَّته.


وقد عزَّاني بعض طلابه وطالباته من خريجي كلية الشريعة، ومنهم د. عائشة المناعي عميدة الكلية الآن، فذكرت لي أن آثاره لا تزال مغروسة في فكرها ووجدانها، وأنه كان يدرِّس مادَّته في الفقه وأصوله، وهي مادَّة صعبة، لكنه يدرِّسها بـ(مزاج)! ويحبِّبها إلى طلابه بما يُضفي عليها من رُوحه. وهكذا كلُّ مَن درَّسه لا زال موصولا به فكريا وعاطفيا، فقد كان يمارس التدريس كأنه فنان يمارس هوايته. وذلك لأنه لم يكن يعتبر التدريس مجرد وظيفة، بل يعتبره رسالة يؤمن بها، وعبادة يتقرَّب إلى الله بأدائها!


أستاذ جامعي متميز


والحقُّ أن عبد العظيم الديب يعدُّ أستاذا جامعيًّا متميِّزا، بكلِّ المقاييس، باعتراف كلِّ مَن عايشوه من العمداء والزملاء.




وأشهد أنه منذ جاء عبد العظيم إلى قطر، قد حمل العبء معي، وكان الساعد الأيمن لي، وقد هضم نظام الساعات المكتسبة، وأصول الإرشاد الأكاديمي، وساهم في تيسير ذلك للطلاب مساهمة فعالة. كما أنه رجل مخلص في تدريسه، يتعب على دروسه، ويعدُّ محاضراته، ويقترب من تلاميذه، ويبتكر في طرائقه، حتى إنه كان يدرس كتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، فاخترع له أسئلة على الطريقة الأمريكية، بملء الفراغات، أو الإجابة بعلامة (ü) أو (û)، أو بكلمة (نعم) أو (لا)، أو اختيار إحدى الإجابات، إلى غير ذلك.
ولهذا كان قريبا من الطلبة والطالبات، محبَّبا إليهم، محوطا بعواطفهم، حتى بعد أن يتخرَّجوا، يظلُّون على صلة به، وقرب منه، وسؤال دائم عنه. وهذا ما لم أجده إلا عند القليلين من الأساتذة.


فمن الأساتذة مَن يحبه الطالب، ولا يحترمه، لأنه طيب القلب، دمث الأخلاق، جيَّاش العاطفة، فمثله يُحبُّ، ولكن ليس عنده من العلم والموهبة والشخصية ما يجعل الطالب يحترمه.


ومن الأساتذة: مَن يحترمه الطالب لقوَّة شخصيته، وسَعَة علمه، وضبطه لقاعة الدرس، ولكنه لا يحبُّه، لفظاظته أو كبريائه، أو جلافة طبعه، أو نحو ذلك، مما لا يجذب القلوب إليه ومنهم: مَن لا يحترمه الطالب ولا يحبُّه، فليس عنده من العلم والشخصية ما يحترمه الطالب ويقدِّره لأجله، ولا عنده من العاطفة، وحسن المعاملة، وانبساط الشخصية: ما يحبِّبه إلى الطالب.


ومنهم: مَن يجمع له الطلاب بين التقدير والحبِّ معًا، لما وهبه الله من علم، وما منحه من مواهب، وما يبذل من جهود: تفرض على كلِّ مَن اتَّصل به أن يقدِّره ويحترمه، ويعطيه حقَّه من الإكبار والتقدير، كما أن لديه من الفضائل النفسية، والمكارم الأخلاقية، والسلاسة والعذوبة في الشخصية: ما يجعله يألف ويؤلف، ويُحِب ويُحَب.








وأحسب أن عبد العظيم كان - إلى حدٍّ كبير - مع طلابه من هذا الصنف. ليست هذه شهادة صديق لصديق، وإنما هي شهادة رئيس أو عميد لأستاذ. على أن شهادة الصديق لصديقه ليست دائما موضع تهمة، فالله تعالى يقول: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]



ومن الأصدقاء مَن يجور على صديقه، أو لا يعطيه حقَّه من الثناء إذا كان أهلا لذلك، حتى لا يُتَّهم بالتحيُّز، وهو بهذا قد ظلم صديقه، وظلم الحقَّ معًا. كما قيل: إن بعض القضاة حكموا على بعض الأمراء ظلما ليشتهروا بالعدل! وقد شاهدتُ بنفسي بعض الأساتذة، وأنا عميد لكلية الشريعة ظلم ابني، ولم يعطِه الدرجة التي يستحقُّها، حتى لا يقال: إنه جامل ابن العميد!!




لم يركض وراء الشهرة والمال


لقد عاش عبد العظيم الديب حياته راهبا ومتفرِّغا للعلم، لم يركض وراء الشهرة، ولم يسعَ إلى الأضواء، مثل كثير من زملائه، وغير زملائه. بل الحقيقة أن الأضواء سَعَت إليه، وركضت خلفه، ولكنه أبى أن يستجيب لإغرائها.


لقد كلَّمني كثير من أهل العلم أن تتاح لهم الفرصة ليظهروا في برنامج (الشريعة والحياة) الذي أقدمه في قناة الجزيرة، حين أغيب عنه لسبب أو لآخر. إلا عبد العظيم الذي ظلَّت الجزيرة تحاول أن تظفر به في حلقة من الحلقات، وهو العالم الكفء القدير على إيفاء أي موضوع يختاره حقَّه، فلم تصل إلى ما تريد، وقد وسَّطوني في ذلك لإقناعه، فلم أستطع، فقد كان موقفه مبدئيًّا.


وظهرت المصارف (البنوك) الإسلامية، وهيئات الرقابة الشرعية فيها، وفيها مجال للإغراء، وهو من رجال الفقه المعدودين، فلم يقبل أن يدخل في هذا الميدان أيضًا، في حين نرى كثيرين من زملائنا قد أصبح هذا شغلهم الشاغل، الذي يستهلك كلَّ وقتهم أو جُلَّه، ويشغلهم عن العطاء العلمي المنشود من مثلهم.



ولقد شغله الاستغراق في خدمة العلم عن مجاملة الناس، وزيارتهم في مجالسهم، والتعرُّف على كبار الشيوخ الذين لهم منزلة وتأثير في البلد، كما فعل كثيرون. ولا غرو أن أُعطيت الجنسية القطرية لعدد من زملائه، وكلُّهم من أهل الفضل، وكان هو أحقَّ بها وأهلها، فهو أقدم منهم في البلد، وأعظم كفاية، بشهادتهم أنفسهم، ولكن الكثيرين لا يعرفونه.








مشغول بهموم الأمة


ومع عكوفه على العلم، واستغراقه فيه، كان أبدا مشغولا بهموم الأمة، أمَّة الإسلام في المشارق والمغارب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، وقضاياها الثقافية والاجتماعية، وله فيها رأي ورؤية، وما لقيتُه مرَّة أو حدَّثتُه بالهاتف إلا أخذتْ هذه الهموم جُلَّ وقتنا، فلا يستطيع العالم الحقُّ - وإن ترهَّب وتفرَّغ - أن ينفصل عن أمَّته وما تشكو منها، وهو جزء منها، وعضو في جسدها، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.



اشتغاله بالتحقيق أكثر من التأليف


اشتغل عبد العظيم بالتحقيق أكثر مما اشتغل بالتأليف، مع أنه قادر على التأليف بمنهجية وجدارة، ولقلمه نفحة أدبية ظاهرة، وله اهتمام بالثقافة العامَّة، وبالتاريخ الإسلامي خاصَّة، وله فيه دراسات وكتابات جيدة، نشرت له (الأمة) في سلسلة كتبها الدورية: كتابا منها بعنوان: (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي)، حتى إنه كتب قبل ذلك كتابا عن (أبي القاسم الزهراوي)، الطبيب الجراح المسلم المعروف، وقلما يعنى المشايخ بمثل هذه الأشياء! كما له عناية فائقة باللغة والأدب والشعر، ولا غرو فهو ابن دار العلوم الأصيل.
ولم يؤلِّف فيما يُدرِّسه إلا كتابا واحدا في الميراث والوصية، ليوفِّر وقته لتحقيق الكنوز التي عكف عليها.




مقدمتي لتحقيق (نهاية المطلب


وقد كتبتُ مقدِّمة طويلة لعمله العلمي الكبير، وهو تحقيقه لكتاب (نهاية المطلب) لشيخه ومعشوقه إمام الحرمين، تضمنت ثلاث كلمات: كلمة عن إمام الحرمين، وكلمة عن كتاب (نهاية المطلب)، وكلمة عن المحقِّق، ولا بأس أن أقتبس هنا بعض ما كتبته عن المحقِّق، قلتُ:


وأما المحقق، فهو الأخ الصديق الصدوق: الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، الذي أعرفه منذ كان طالبا في القسم الابتدائي بمعهد طنطا الديني، وتربطني به منذ ذلك الزمن صلة وثيقة، لم تزدها الأيام إلا قوَّة، وإن كان يصغرني ببضع سنوات.
عرَفتُ الدكتور الديب – منذ يفاعته - رجل صدق: صدق مع نفسه، وصدق مع ربِّه، وصدق مع إخوانه، وصدق مع الناس أجمعين، مستمسكا بالعروة الوثقى لا انفصام لها.عرَفتُه قوي الإيمان، عميق اليقين، نيِّر البصيرة، نقي السريرة، يقظ الضمير، حيَّ القلب، جيَّاش العاطفة، طاهر المسلك، بعيدا عن الريبة. وعرَفتُ فيه الحماس والغَيرة لما يؤمن به، لا يضنُّ بجهد ولا وقت ولا نفس ولا نفيس في سبيل ما يؤمن به، مدافعا عنه، وإن خالفه الناس. وقد يغلو في الدفاع عن بعض الفصائل الإسلامية، حتى يكاد يحسبه سامعه من المتشدِّدين، وما هو منهم.


تجسَّدت فيه الأخلاق العريقة للقرية المصرية – قبل أن تُغزى بآفات الحضارة الحديثة - من الحياء والإباء، والشهامة والوفاء، والبرِّ والصلة، كما يتجلَّى ذلك في إهداءاته لكتبه، وشكره لشيوخه وزملائه، وكلِّ من عاونه بجهد. أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى




وقد تجلَّت هذه الفضائل التي عُرف بها الديب يافعا وشابًّا، في حياته العلمية المباركة، كهلا وشيخا، ومَن شبَّ على شيء شاب عليه.
وإذا رأيت من الهلال نموَّه .. أيقنت أن سيصير بدرا كاملا!







المحقق المتميز

فالدكتور الديب رجلٌ عالم بحاثة دؤوب، طويل النفس، دقيق الحسِّ، نافذ البصيرة، متمكِّن من مادَّته، قادر على الموازنة والتحليل، له مَلَكَة علمية أصيلة يقتدر بها على الفَهم والفحص، والنقد. صبور على متاعب العلم، وللعلم متاعب ومشقَّات لا يدركها إلا مَن مارسها وعايشها، كما قال الشاعر:


لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده .. ولا الصبابة إلا مَن يعانيها!



وكما ذكرتُ أن الدكتور الديب رجل له قلم رشيق بليغ، كما تجلَّى ذلك في بعض ما كتب من مقالات ورسائل وكتب. ومع هذا لم يشغل (التأليف) وقته، كما شغله (التحقيق) فقد اختار الطريق الوعر، والمهمَّة الأصعب، وهو لها بتوفيق الله: بما لديه من مؤهِّلات عقلية وعلمية ونفسية؛ فقد حفظ القرآن من صِغَره في الكتاب، وتكوَّن في معاهد الأزهر، الابتدائية والثانوية، ثم في كلية (دار العلوم) بالجامعة، وكان فيها فحول في علوم العربية والشريعة، وملك مفاتيح العلم، وعاش يقرأ ويدرس ويناقش، ويتعلَّم من كبار الشيوخ، وأساتذة التحقيق، وقد اكتملت له الخصال أو المزايا الست، التي أوصى بها شيخه الإمام الجويني طلاَّب العلم، فيما أنشدوا له من شعر، حيث قال

أصغ، لن تنال العلم إلا بستة .. سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء، وحرص، وافتقار، وغربة .. وتلقين أستاذ، وطول زمان


وقد عكف الأخ عبد العظيم منذ دخل ميدان التحقيق على تراث إمام الحرمين، فهو مُولَع بالرجل منذ عَرَفه في دراسته عنه بالماجستير والدكتوراه بدار العلوم بل هو في الحقيقة (عاشق) لإمام الحرمين، كما تحسُّ بذلك إذا تحدَّث عنه أو كتب عنه. والعاشق تهون عليه الصعاب، ويجد البعيد قريبًا، والحَزَن سهلا، في سبيل معشوقه.


أخرج الدكتور الديب قبل ذلك من كتب إمام الحرمين (البرهان) في أصول الفقه، وهو كما قال التاج السبكي (لغز الأمة). وقد أمضى في تحقيقه سبع سنوات كاملة.





وأخرج بعد ذلك له أثرين مهمين
و(الدرة المضية في الخلاف بين الشافعية والحنفية)، وقدم لها بدراسة مهمة ونافعة كذلك. أما تحقيق (النهاية) أو نهاية المطلب، فقد كان حلما وأمنية له، منذ عرف إمام الحرمين، ثم غدا أملا ورجاء، ثم تحول إلى حقيقة، منذ بدأ يبحث عن نسخه منذ سنة 1975م، ومنذ وصل إلى قطر سنه 1976م، وهو مشغول بالكتاب. وظلَّ نحو عشرين عاما، وهو عاكف على (النهاية) أو (نهاية المطلب)، عايشه هذه السنين ورافقه: يقرؤه على مهل ، ويجتهد أن يفهمه على الصواب ما أمكن، وأن يفسر غامضه، ويفك طلاسمه.


وأنا أدرى الناس بما عاناه الدكتور الديب في تحقيقه لهذا المخطوط، من حيث جمع أصوله المبعثرة في شتى مكتبات العالم، فقد ظل يقرأ فهارس المخطوطات، ويتتبعها، ويزور المكتبات هنا وهناك بنفسه، ويسأل العارفين، ويستعين بالأصدقاء - وأنا منهم - ليبحثوا له عن نسخ من الكتاب، حتى جمع أقصى ما يمكن الحصول عليه من أجزاء الكتاب من مظانه في العالم، عن طريق التصوير طبعا.


جَهَد د.الديب جَهده، حتى جمع من الكتاب عشرين نسخة صوَّرها من مكتبات العالم: في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سورية، والسلطان أحمد وآيا صوفيا من تركية. ولكن لم توجد منه نسخة كاملة. وبلغ عدد مجلداتها (44)، وعدد أوراقها (10336) ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة.هذا، بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي تسع نسخ، بلغ عدد مجلَّداتها (15) وعدد أوراقها (3750) تقريبًا.




ثم بدأ يقرأ النص قراءة العارف الخبير، ولكنه يقرأ نصًّا غير عاديٍّ، لرجل غير عاديٍّ، فبعض المصنَّفات تكون ترديدا لكلام السابقين، أو تكرارا وتأكيدا له، فيستطيع قارئها أن يبحث عنها فيما نقلت عنه.


أما إمام الحرمين فهو مستقلٌّ في تفكيره، مستقلٌّ في تعبيره، فيحتاج من محقِّقه إلى فَهم دقيق، وتأمُّل عميق، وصبر جميل، ومراجعة طويلة، حتى يفهم ما يريد المصنِّف.


على أن إمام الحرمين كثيرا ما يغرب في تعبيره، فيظلُّ المحقِّق يبحث طويلا في المعنى المراد، حتى يجده باليقين أو بالظنِّ. وقد يظلُّ أسابيع أو شهورا، يفتِّش عن المعنى، ويبحث عن المظانِّ، ويشاور مَن يثق به، إلى أن يشرح الله صدره لما يختار.
أضف إلى ذلك ما تعانيه المخطوطات أبدا من كلمات مطموسة، أو مخرومة، كلها أو بعضها، أو لعلها سقطت من المصنف نفسه أثناء الكتابة، كما يحدث لكلِّ مؤلف، زيادة عما يصنعه النسَّاخون بالكتب من تصحيف وتحريف، ومسخ وتغيير، وخصوصا الجهلة منهم!


زد على ذلك ما يستشهد به المصنِّف رحمه الله من أحاديث، بعضها لا يكون معروفا عند الفقهاء، وفي كتب الفقه المألوفة، بحيث نجده، في تلخيص الحبير، أو سنن البيهقي، أو غيرهما من الكتب التي هي مظان هذا اللون من الأحاديث.
ليس هيِّنًا ما قام به الدكتور الديب من تحضير وتهيئة للعمل الكبير الذي نهض له، وهو له أهل، ليخرج (النهاية) إلى النور، ويحيلها من مقبور إلى منشور.
وقد قال بعض العلماء: من نشر مخطوطة، فكأنما أحيا موءودة!. فكيف إذا كانت هي (النهاية)؟!



مدرسة متميزة في التحقيق


ينتمي الأخ الدكتور الديب إلى مدرسة في التحقيق، متميزة، شيوخها الكبار: آل شاكر: أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، رحمهم الله، وأمثالهم وهي مدرسة تُعنى بخدمة النص ذاته، وتقديمه للقارئ بيِّنا واضحا مفهوما، كما أراده مصنفه، بقدر الاستطاعة، ولا تثقل كاهل المتن المحقق بكثرة التعليقات التي لا لزوم لها، وتوسيعها بغير حاجة، كما يفعل الكثيرون. ولقد زرت الدكتور الديب في (مخبئه العلمي) أو في (ورشة العمل) التي يزاول فيها مهنته، ويمارس تحقيقه، وهي حجرة كبيرة فيها عدة مكاتب، مجهزة بما سماه الدكتور (حافظ عصرنا) الكومبيوتر، وبالجهاز القاريء للمخطوطات، وبالمراجع المختلفة: من فقهية وحديثية ولغوية، وغيرها.
وقد قدم الدكتور الديب من قبل دراسة عن إمام الحرمين : حياته وآثاره، حصَل بها على درجة (الماجستير) من كلية دار العلوم، وأخرى عن (فقه إمام الحرمين) حصل بها على درجة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف، والتوصية بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات.






وهذا كله ساعده على فهم إمام الحرمين، وكتابه المتميز (نهاية المطلب).
لقد قدم الدكتور عبد العظيم الديب للمكتبة الإسلامية خدمة جليلة، بتحقيق هذا الكتاب الفذ، ولا يسعنا، بل لا يسع أي مسلم يهتم بدينه وثقافته وحضارته إلا أن يشكر للدكتور الديب ما قام به من جهد وعناء طوال تلك السنين) اهـ.



مرض الشيخ بالقلب


لم يكن عبد العظيم من المرفَّهين ولا المدلَّلين، فهو ابن القرية حقًّا، الناشئ في ربوعها، الآكل من ثمارها، الشارب من لبانها، المتمتِّع بهوائها، وكان تكوينه البدني قويًّا، ولكن شاء الله تعالى أن يصيبه من أمراض العصر مرض القلب، وسافر إلى لندن لعمل عملية جراحية منذ سنوات، تمَّت بنجاح والحمد لله. ولكنه ظلَّ تحت تأثير هذا المرض، فقلَّل من قُدرته على العمل، ومن لقائه بالناس، وما زال به حتى أصابته جلطة في رجله، دخل من أجلها المستشفى، وأُجريت له عملية، وكان قدر الله أن تكون فيها وفاته، رحمه الله.


العناية بتراث الشيخ ونشره


وأعتقد أن عبد العظيم قد ترك وراءه أشياء كثيرة جديرة أن تُنشر، سواء في باب التأليف أم في باب التحقيق، وإني لأرجو من تلميذه القطري الوفيِّ المخلص الذي كان ساعده الأيمن في تحقيقه، الأخ علي الحمادي حفظه الله: أن يحرص على كلِّ ورقة تركها، وأن ينشر ما هو جاهز للنشر منها، وأن يبحث مع بعض إخوان الشيخ على ما وصل إلى مرحلة قابلة للإتمام، للعمل على إتمامه، وفاء بحقِّ الرجل. ونرجو من جامعة قطر، ووزارة الأوقاف ووزيرها الشهم أحمد عبد الله المري، أن تساهما في ذلك بما للرجل من حقٍّ عليهما. على طلاَّب الدراسات العليا تقديم أطروحات عن تراث الشيخ:


كما أرجو من طلاَّب العلم في جامعاتنا العربية والإسلامية: أن يتناولوا سيرته العلمية وآثاره المنشورة، بالدراسة والتحليل، في أطروحات أكاديمية للماجستير أو الدكتوراه، لتنتفع بها أجيال الأمَّة القادمة.


أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لأخي عبد العظيم ويرحمه، ويتقبَّله في الصالحين من عباده، ويسكنه الفردوس الأعلى، ويجزيه خير ما يجزى به العلماء العاملين، والمعلِّمين الربانيين، والدعاة الصادقين، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب:39] وأن يرزق أهله وإخوانه وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يعوِّض الأمة فيه خيرا، وألاَّ يحرمنا من بشرى الصابرين، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157،156

د. يوسف القرضاوي