مقالات تاريخية

جنوب السودان وصناعة التآمر

switch off icon switch on icon

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، اللهم إنا نعوذ بك من الخطأ والخطل، والخلل والزلل، وسيئ القول والعمل، ونصلي ونسلم على صفوتك من خلقك، وخاتم رسلك، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين. وبعد: فإن الأمم الناهضة في حين نهضتها تُحسن قراء تاريخها، فتحسن النظر إلى واقعها، ومن ثم تعرف كيف تستشرف مستقبلها، وتخطط لغدها، وتتبين مواطئ أقدامها، فتمضي صعدًا في طريق القوة والمجد. أما في حالة التدهور والانحطاط، فإن الأمة لا تحسن قراءة تاريخها، ولا النظر في واقعها، وبالتالي لا تعرف كيف تنظر في مستقبلها، ولا تدبر أمر غدها، ويضيع منها الطريق، وتضل خطاها، وتلتوي عليها المسالك والدروب، فتدور حول نفسها، وتتعذر عليها الرؤية، وتصنع بنفسها ما يريد عدوّها أن يصنعه بها! واليوم نرى أمتنا – للأسف – قد وقعت في هذا المأزق الخطير، فلا هي تحسن قراءة تاريخها البعيد، ولا رؤية تاريخها القريب. أوقعها في ذلك كيدٌ خبيث، وتدبيرٌ محكم، من أعدائها، ثم غفلة وسذاجة من بعض أبنائها، الذين أملى لهم الاستعمار، ومكن لهم – قبل أن يرحل – من مراكز الثقافة والفكر والإعلام والفنون والتربية والتعليم، فتولوا تهميش العقل العربي المسلم، وفرغوه من كل ثقافة جادة، ومعرفة بثقافة أمته، ومشكلاتها، والتبصر في أسبابها وجذورها، والبحث عن حلها وعلاجها. وشغلوه – العقل – بسفاسف الأمور وتفاهاتها، من مثل: المشوار الفني لفلان ولفلانة، من الممثلين والممثلات، الأحياء منهم والأموات، وأزمة النص المسرحي، وأزمة المسرح الخاص والمسرح الحكومي، ودور الأغنية ووسيلتها في إصلاح حال الأمة!! مما هو مقرر علينا يوميًا، ورقصوا فوق الكعبة1 في مهرجان المسرح، وجعلوا ذلك إبداعًا وسخروا من المسجد، والأذان والصلاة، والوعظ الديني، في مهرجان أفلامهم التسجيلية، وسمُّوا ذلك (علاجًا) (للزواج على الطريقة المصرية)2. أما أنباء العالم فيكفينا منها: أخبار كلبة بوش وفضائح نانسي والخصام بين الأميرة ديانا وزوجها تشاركز، وانفصال الأمير أندرو عن زوجته ساره، ثم زواجها المقبل من فلان، وزواجه المقبل من فلانة. أما العنتريات الكروية والدوري والكأس، والصياح الذي يصم آذاننا كل يوم تقريبًا “جوووون، جوووووون – يا خسارة ياولاد ” ، والجنون الذي وصل بنا إلى مناقشة أسباب الهزيمة الكروية أمام إحدى الفرق الإفريقية في مجلس الشعب.  إي والله العظيم حدث هذا وتدخل رئيس الجمهورية (مبارك) لإعادة مدرب الفريق القومي، أو لا يدري مدير الفريق القومي بعد استقالته، أما الأسبق (عبد الناصر) فقد تدخل كما نشرت الصحف للإصلاح بين عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وأجبر خاطر عبد الحليم (حليم) من طغيان (ثومة)، وأمر بإقامة حفلة ثانية يغني فيها حليم ويحضرها الريس، وأما الآخر (السادات) فقد وعد الفنانين والفنانات بإصدار قانون يلزم كل صاحب بناية كبيرة تزيد قيمتها عن كذا أن يجعل طوابقها الأولى دارًا للعرض السينمائي. على حين عندما اندحرنا أمام إسرائيل في ذلك العام الأسود 1967م رأينا هذا المجلس نفسه يرقص (إي وربي، رأينا الرقص حقيقة لا مجازًا) طربًا لأن (الزعيم) باقٍ في مكانه، ورجع في كلامه ولم (يتنحّ) عن الكرسي. أما زهرة شبابنا الذين ذهبوا جَزَر (أي عام) الكلاب والذئاب والضباع في صحراء سيناء (فقدنا يومها أكثر من عشرة آلاف من خيرة شبابنا3، وأما عاصمتنا التي كانت مستباحة، إذ لم يكن بين القاهرة وقوات إسرائيل على شاطئ القناة جندي واحد (ليس من عندي، بل باعتراف الزعيم نفسه في إحدى خطبه العامة)، وأما جيشنا الذي ذهب بددًا ” كل فرد ينسحب على مسئوليته الخاصة “. وأما سلاحنا الذي ذهب غنيمة باردة، وأما اقتصادنا الذي انهار من يومها، وأما كرامة أمتنا التي ديست في الوحل … كل ذلك لا يساوي شيئًا، ولا يستحق المساءلة، ولا يحتاج إلى التحقيق أو تقصي الحقائق، مثل الهزيمة الكروية! بهذه الثقافة المزيفة، بهذا العقل المغيب، أو المهمش نتناول قضايا أمتنا، جاهلين تاريخها البعيد، عُمْي البصر والبصيرة عن تاريخها القريب، وسَلْ من شئت من عامة المثقفين، بل من خاصتهم، بل من المتخصصين (الأكاديميين) في التاريخ، عن مآسينا في أريتريا، وأوغندة، والصومال، والحبشة، وزنجبار، والسنغال، ونيجيريا، وسيراليون، وكل دول إفريقية، وجنوب السودان، والفلبين، وبورما، وفطاني، وإندونيسيا، والهند، وكشمير، وسل من شئت عن مآسي الإبادة والمذابح للمسلمين في الجمهوريات الست التي اغتالها الاتحاد السوفيتي (أيام أن كان) وفي ألبانيا، وبلغاريا، ويوغسلافيا، وغيرها وغيرها… هل تجد من يدري عن ذلك شيئًا؟؟ وهل حوت مناهجنا الدراسية سطورًا عن ذلك؟؟ وهل حوت مادة ثقافتنا وإعلامنا لمحة عن ذلك؟!! إننا لم نسمع عن (البوسنة والهرسك) إلا من الإعلام الغربي، ولم نقرأ عن مأساتنا هناك إلا نقلاً وترجمة عن أقلام الغرب!! ونتناول أنباء المآسي والمجازر والتنكيل هناك بأسلوب عجيب غريب، يوحي بأن هؤلاء ليسوا جزءًا منا وليسوا بضعة من جسدنا، وليسوا من لُحمة نسيجنا (حاشا جماعة من أبناء أمتنا، كانوا حسنات لها، أذهبن شيئًا من سيئات الإعلام الحكومي والموقف الرسمي). بهذه الثقافة المزيفة، وهذا العقل المهمش المغيب، تستقبل أخبار السودان، وما يجري في جنوبه وشماله، فيجوز على كثير منا هذا التشويش، وهذا التضليل، (وينطلي) على الكثيرين كلام (المهمِّشين والمهمِّشات) عن (أمن مصر) و(البوابة الجنوبية) و(معسكرات التدريب) و(تصدير الإرهاب) و(محور الخرطوم طهران) و… و… وكأن السودان (المسكين) قد فرغ من كل مشاكله الداخلية والخارجية، ونجا من كل الدسائس التي تدبر ضده، ومن كل المكائد التي تحاك له، جزاء وفاقًا على نفض يده وتذمره من اتفاقيات الإذلال والامتهان، وتوجهه إلى حل مشاكله حلاًّ داخليًا بإنتاج غذائه بيده، وفي طين أرضه، حتى تحررت إرادته. كأن هذا السودان صار هو الخطر المحدق بمصر، بل وبغير مصر من بلاد العروبة (أمجاد يا عرب أمجاد)!! أما إسرائيل فقد صارت شريك (السلام)، والأخ الشقيق الذي نطلب منه (صلحًا تاريخيًا مع العرب)، وأما (جون جارنج) الذي تدعمه إسرائيل، وتتناقل الإذاعات العالمية زيارته لإسرائيل، وتحالفه مع إسرائيل .. (جون جارنج) سليل مجلس الكنائس العالمي الذي يرعاه (كارتر) الرئيس الأسبق لأمريكا.. (جون جارنج) زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، والقوة الفعالة في المعارضة السودانية، التي ترعاه (كثير) من الدول العربية، وتفسح لها في أرضها وإعلامها وتدعمها بأموالها. (جون جارنج) تغدق عليه بعض الدول العربية المال والسلاح، وتتحدث عن المعارضة السودانية (لتحرير السودان) وهي لا تدري – أو لعلها تدري – أن المقصود هو تحرير السودان من العروبة والإسلام!! ومن عجب أن كثيرًا من زعماء السودان المخضرمين ينضوون الآن تحت جناح (جارنج)، فهو المعارض الذي يملك جيشًا وسلاحًا، ومن هؤلاء الزعماء من كان يحارب (جارنج) أيام كان في السلطة، ويعرف تمامًا مآرب (جارنج) وغاياته.. ولكنه (العقل المغيب) ولا تقول هنا (المهمش). ثم أما بعد: هذه الصفحات كنت قد كتبتها في سنة 1964م، ففي أكتوبر من ذلك العام سقط الحكم العسكري الأول في السودان، حكم إبراهيم عبود، وكان السبب المباشر لذلك الرصاصة التي قتلت (القرشي) أحد زعماء طلاب جامعة الخرطوم، حين اجتمعوا في رحاب الجامعة يتدارسون مشكلة الجنوب. في ذلك الوقت كنت مقيمًا في السودان، ورأيتُ كيف استطاع شعب السودان الأعزل أن يثأر للقرشي بإسقاط النظام. يومها لم يشغلني الإعجاب بشعب السودان عن البحث عن جذور (مشكلة الجنوب) التي كانت السبب في هذه الزلزلة التي ذهبت بحكومة وأتت بأخرى. ومن هنا كانت هذه الصفحات التي أقدمها اليوم كما كتبتها منذ ذلك التاريخ، فلم أجد فيها شيئًا يحتاج إلى تغيير، فبالرغم من أن مشكلة الجنوب صارت اليوم غيرها بالأمس، فلم يكن أكثر الناس تشاؤمًا يظن أن الأمر سيصل بجنوب السودان (وجون جارنج) إلى هذا الوضع الذي هو فيه اليوم. أقول: بالرغم من هذا التحول البعيد المدى في مشكلة الجنوب، فما زالت حقائق التاريخ، وجذور المشكلة، وكيف غُزلت خيوطها، وكيف نسجت شباكها، في حاجة إلى أن نُعرف أخبارها، وأن تُكشف أستارُها، بل ربما كانت الحاجة إلى ذلك اليوم أكثر منها بالأمس. حين نعي جذور هذه المشكلة (مشكلة جنوب السودان) سنرى أن (جون جارنج) لا يعمل وحده، إنه جزء من آلة ضخمة، تعمل على تفكيك العالم الإسلامي كله. إنه خطوة – طالت أو قصرت – في رحلة طويلة، (استراتيجية) بعيدة، تقول وتعلن صراحة: “إذا كنا قد أخرجنا المسلمين من الأندلس بعد أن مكثوا بها أكثر من ثمانمائة عام، فإننا قادرون على استعادة كل ما فقدناه من أملاكنا في إفريقية وفي الشمال الإفريقي، وفي مصر، وفي الشام، بعد ثمانمائة أخرى، حتى نرد العرب (المسلمين) إلى جزيرتهم”. هذا الكلام مكتوب ومنشور، ولكن القوم يعتمدون على أننا لا نقرأ، وإذا قرأنا ننسى سريعًا، ولا نتذكر، بل ربما لا نفهم، وإذا فهمنا قد لا نصدق! أي أن عقلَنا لا يستطيع أن يستوعب هذا الهدف الذي يخطط له مئات السنين. وكل ما يجري على أرض الواقع العربي – للأسف – يصدّق ذلك. ولولا ثقة في وعد الله الذي لا يتخلف ]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ[ {الصَّف:9} . لولا ذلك لكان لهم ما يريدون. ولكن الله غالب على أمره، وهو ولينا، ونعم المولى ونعم النصير.. وهو وحده المستعان على كل بليّة.  أبو محمود/ عبد العظيم محمود الديب مدينة نصر – 15 صفر 1413ه 16 أغسطس 1992م Page Break جنوب السودان  ما زالت مشكلة الجنوب في السودان جرحًا نازفًا برغم كل الجهود المبذولة والنوايا الصادقة الخالصة من الرجال الأبرار. وحسبنا أن نعود إلى جذور المشكلة لنسأل التاريخ:  لماذا كان في السودان جنوب وشمال؟  لماذا لم يكن السودان سودانًا فحسب؟ السودان والتاريخ: شهد مطلع القرن التاسع عشر خروج المستعمرات الأمريكية من يد المستعمرين الأوروبيين، كما استنزفت ثروات آسيا فتطلعت عيونهم الزائغة تبحث عن مجالات أخرى تنهبها لتعوض بها ما فقدته في أمريكا وما نضبت في آسيا. ولعله لم يكن من قبل المصادفة أن شهد مطلع القرن التاسع عشر أيضًا ظهور أبحاث الرحالة والمكتشفين التي جاءت تؤكد أن إفريقيا قارة بكر، ومخازن غنية بالمؤمن، ومناجم متخمة بالثروات، وتحلبت أشداق الاستعمار وسال لعابه، وبدأت انجلترا وفرنسا والبرتغال تلتهم القارة من أطرافها. وآنذاك خرجت الأخبار بأن بلاد السودان بلاد خالية من القوة التي تحميها وذلك بسبب تصارع ممالكها فيما بينها: (سلطنة الغور) في الغرب، و(مملكة الفونج) في الشرق، و(مملكة بربر) و(مملكة تقلي) في جبال النوبة، وأن البلاد لقمة سائغة، وهنا تحفز الاستعمار وأوشك على الانقضاض!! ولكن شاءت الأقدار أن تنقذ السودان من الاستعمار الأوروبي، فسبقت إليه الدولة العلية، دولة الخلافة الإسلامية (تركيا)، حين استنجد ملك (بربر) في سنة 1813م وسلطان (دارفور) في سنة 1820م بمصر بسبب اشتداد النزاع والصراع. وجاءت جيوش محمد علي والي مصر باسم الخلافة العثمانية، وأعادت للسودان الأمن والاستقرار، وأتمت توحيده في دولة واحدة متماسكة، وكانت المهمة سهلة ميسرة، فقد ساعد جيوش الخلافة كثير من زعماء السودان الذين فهموا الروح الإسلامية التي جاءت بها، وأبرز مثل على ذلك (الزبير رحمت باشا) الذي لم يكتف بالانضمام بإمارته بل أخذ في إخضاع المناطق المجاورة له بالحجة والإقناع وبالقوة حين لا ينفع الإقناع، وكان هو الذي ضم كل غرب السودان. وبهذا كان السودان أسعد حظًّا من جيرانه، فقد أفلت من الاستعمار الأوروبي الذي بدأت مباضعه تعمل في تمزيق القارة البكر. ولكن الاستعمار لم يسلم بهذا، وهاله وأفزعه – أيما هول وأيما فزع – أن تكون في قلب القارة دولة موحدة بهذا الاتساع، وتنعم بالأمن والهدوء والاستقرار، والأخطر من ذلك يشع عليها نور الحضارة الإسلامية وضوء الدين الإسلامي. ولو كان الأمر يقف عند حدود السودان لهان الشأن، ولكن الخطب أخرط وأكبر، فكيف يتمكن الاستعمار من إتمام سيطرته على قارة إفريقية وفي سوطها هذه المنارة؟ كيف يتمكن من نهب القارة وفي قلبها دولة قوية مترامية الأطراف تشع حضارة إسلامية وتنشر الدين الإسلامي، فيفزع ذئاب الاستعمار؟ ومن هنا لم يسلم الاستعمار بالزيمة ولم يغمض له جفن وراح ينفث سمومه وأحقاده، ولذا تعرض السودان لما لم تتعرض له دولة من الدول، تعرض السودان لمؤامرات استعمارية دائبة متصلة، هدفها تفتيت وحدة السودان (أكبر دولة في قلب إفريقيا) والقضاء على  الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي.. وتشابكت حلقات هذه السلسلة من الاعتداءات والمؤامرات الاستعمارية، وما يجري في الجنوب الآن ليس إلا حلقة من هذه الحلقات، التي تلونت بكل لون وتشكلت بكل شكل من دسائس بين السودان وجيرانه، إلى بعث للنعرات القبلية إل زعزعة للعقيدة وتحطيم للأخلاق والمثل. ولنستعرض في إيجاز سريع شيئًا مما عاناه السودان من هذه المؤامرة:  بدأت أول محاولة لتفتيت وحدة السودان مبكرة جدًّا حين سعى الإنجليز بوسائلهم لدى السلطان في (الاستانة) حتى انتزع شرق السودان من والي مصر وألحقه بولاية جدة، ولضعف والي جدة تمكنت إنجلترا من التهام الأراضي الواقعة جنوبي مصوع، وجزيرة (أرياط)، كما تمكنت إيطاليا من التهام (عصب) وأقامت فرنسا قنصلية لها في (مصوع) لتباشر منها الإشراف على مصالحها وتتحفز للالتهام. وما زال والي مصر يواصل السعي الدائب لدى الباب العالي حتى رد إليه (تهائيا) شرق السودان ومنفذه الطبيعي الوحيد على البحر الأحمر وأعاد تطهير الأجزاء التي دنسها الاستعمارية مرة ثانية. راحت انجلترا توقع بين السودان وجيرانه وبدأت تبكي على المسيحية الحبشية (كانت الحبشة آنذاك مركزًا للتجارة البريطانية)، ونجحت إدارة السودان المصرية في إثبات سماحة الإسلام، وكراهية المسلمين للتعصب الديني، كما يكره الإسلام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. حاولت انجلترا عام 1867م أن تجرب حظها في استخدام القوة لاحتلال (مصوع) ولكنها فوجئت بأن إدارة السودان على الفور عززت حامية (سواكن) وتحرك الأسطول المصري من (السويس) ليقف تجاه (مصوع) فترددت انجلترا وأحجمت نهائيًا عن هذه المغامرة. استغلت انجلترا وجود الموظفين الإنجليز الذين سمح لهم (ضميرهم وحضارتهم) أن يخونوا أمانة الدولة التي استخدمتهم، ويعملوا لحساب أبناء جلدتهم، أمثال (صموئيل بيكر) الذي استخدمته مصر في إدارة الجنوب على أساس أنه رحالة عالم باحث سبق له ارتياد هذه المناطق، وكان مرتبه عشرة آلاف جنيه سنويًا، ثم أقيل بعد أن ثبت أنه يعمل على عكس البرنامج المطلوب منه من كسب محبة سكان الجنوب وتأليف قلوبهم والتقريب بينهم وبين إخوانهم في الشمال. ثم عينت مصر (غوردون) في نفس العام الذي عزل فيه (بيكر) سنة 1873م ونص في العقد الذي أبرمه معه، وفي قرار تعيينه على تحديد مهام منصبه وجاء في هذا الأمر ما يلي: “الآمر الكريم بتعيين غوردون في 2 محرم سنة 1291هـ رقم 0091 مع معاملة الأهالي بالرفق ولين الجانب، والتآليف، مع المراعاة لما فيه عمارتهم وترغيبهم وتشويقهم على العمارة ودخولهم في سلك الإنسانية.. وعلى هذا ما هو منظور لنا فيكم من حسن الغيرة والاهتمام مؤملين الاستحصال على عمارته4 جهات الاستواء المحكي عنها، وراحة أهاليها، وحسن توطينهم وتآليفهم على الدخول في سلك الإنسانية”. كان هذا هدف الإدارة المصرية وأمل الخلافة العلية. فهل وفَّى (غوردون) لمنصبه؟ وأنى له ذلك؟ استهل غوردون عمله بأن أرسل إلى ملك أوغندا بعثة تعلمه (الدين الأوروبي) وتحدثه عن عظمة ممالكها، بعد أن كان قد طلب من غوردون بصفته موظفًا مصريًا علماء من الأزهر لتعليمه وقومه الإسلام تمهيدًا لانضمام أوغندا – اختيارًا – إلى السودان، ولكن غوردون حرصًا على مصالح إنجلترا ومستعمراتها في شرق ووسط إفريقيا وقف في وجه هذا التيار الحضاري، ضاربًا عرض الحائط بكل القيم الخلقية التي تحتم عليه أن يكون ولاؤه لعمله ومنصبه. وقد وقع فيد يد المسئولين بمصر عن طريق الصدفة رسائل متبادلة بين غوردون ولندن تثبت أنه يعمل لحسابهم ضد مصر. لهذا أخرج (غوردون) من السودان، وتفتحت عيون أولي الأمر على حقيقة هؤلاء الناس فاعتمدوا على أنفسهم وأتموا توحيد السودان وانضمت إليه أوغندا واستكمل الوطن السوداني مقوماته. ونفس الأسلوب الذي استخدمته انجلترا حين فزعت من نمو الوطن السوداني في شرقه، استخدمته حين فزعت من نموه في الجنوب، فأوعزت إلى حاكم زنجبار أن يصرخ ويعلن مستغيثًا معلنا خوفه من اقتراب حدود السودان المسلم من بلاده. وتطوع قنص انجلترا في القاهرة بنقل شكوى حاكم زنجبار مشفوعة بلون من التهديد وأن انجلترا تنظر إليها بعين العطف وتطلب وقف أي نشاط على حدود السودان الجنوبي. ولما لم يأبه أحد لهذه الشكوى المفتعلة دخلت انجلترا مع مصر في مفاوضات اضطرت فيها انجلترا – بعد عناء – إلى الاعتراف بحدود السودان دولة واحدة متكاملة متماسكة5. وكان ذلك في عام 1877م، وسارع ولاة الأمور في مصر إلى طبع مجموعات خرائط مفصلة كاملة للسودان، ووزعت على الدول ذات الشأن في العالم، لتكون وثيقة ضمان لوحدة الوطن السوداني. غوردون مرة ثانية: وكانت انجلترا أعيتها الحيل في السودان، في قلب إفريقية، فنقلت مؤاماتها وجهودها إلى رأس القارة – إلى مصر – عسى أن تضرب السودان (قلب إفريقية) إذا تم لها ضرب مصر (رأس إفريقية)، فنصبت شباك الديون والقروض وأوقعت فيها حكام مصر، وتدخلت في شؤونها وراحت تملى أوامرها في كل شأن بما في ذلك إرادة السودان. فحين سلمت واعترفت بحدود السودان ووحدته استدارت من ناحية أخرى لتحطم وتفتت هذه الوحدة، وفرضت على مصر (التي كانت قد خضعت لها) تعيين (غوردون) حاكمًا عامًا للسودان (ويا للسخرية، مصر تحكم السودان والحاكم غوردون)، وجاء (غوردون) – الذي طرد من قبل – لا مديرًا للجنوب فحسب بل حاكمًا عامًا يحمل خطة واضحة لتحقيق ذات الأهداف القديمة، وهي:  تفتيت السودان وعدم السماح لدولة بهذا الاتساع برفع هامتها في قلب القارة.  القضاء على الدين الإسلامي.  محاصرة العنصر العربي في السودان وإضعاف شانه وتحطيمه. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف الخبيثة استخدم الأساليب التالية: أساليب غوردون:  عزل جميع الموظفين النابهين ذوي السمعة الحسنة والسيرة النبيلة – مصريين وسودانيين – ولم يكن يطيق أي سودني نابه يتفهم مشكلات بلاده ويعمل لإسعادها.  جاء بجيش من الموظفين المرتزقة من أوباش الأمم، وكان شرطه الأول والأخير فيمن يعمل معه أن يكون عنصريًا متعصبًا للرجل الأبيض.  عمل على بعث الروح القبلية بين أهل البلاد، وراح يوقع بين كل قبيلة وأخرى، وألزم كل سوداني أن يكتب بجوار اسمه في الأوراق الرسمية كشهادة الميلاد ونحوها اسم القبيلة التي ينحدر منها، حتى لا ينعم أهل البلاد بالأخوة الكاملة.  عمل على تحطيم العقيدة الإسلامية في نفوس الشعب، فأوعز إلى بعض رجاله الأوروبيين فادعوا الإسلام، ولبسوا ملابس المشايخ أصحاب الطرق، وادعوا التفقه في الدين، وأخذوا في إفتاء الناس على هواهم، وقاموا بنفس الدور الذي قام به من قبل (عبد الله بن سبأ) و(كعب الأحبار) اليهوديين، وكان على رأس هؤلاء الألماني الذي تسمى باسم الشيخ (أمين) وكان يوزع البركات ويمنح العهود.  وأصدر غوردون أمرًا أباح به البغاء العلني، واستقدم جيشًا من العاهرات، وأباح لهنَّ السكنى في أي مكان ولو بجوار المساجد والزوايا والمدارس.  عمل على فصل جنوب السودان عن شماله، فقد ظهرت صحيفة المكتشف الإيطالية في تلك الفترة وفيها على لسان أحد معاوني غوردون الإيطاليين: “يجب أن نفصل تمامًا البلاد السوداء – أي بلاد الزنوج – عن البلاد العربية، من السودان والتي يهيمن عليها العرب، وأن تجمع تحت إدارة مستقلة واحدة أراضي بحر الغزال ومديرية خط الاستواء، ذلك أن العرب الموجودين في السودان ليسوا إلا لصوصًا وشحاذين يجب إرجاعهم إلى بلادهم الأصلية”.  عمل على التخلص من الزعيم السوداني الخطير (الزبير رحمت شاه) فرفض رجوعه إلى السودان.  وظن غوردون أن جهوده قد أثمرت وما غرسه من شر قد آتى أكله، فخلى منصبه وذهب ليستريح وهو واثق من أنه حقق أهدافه الاستعمارية الخبيثة. أثر خطة غوردون: ولكن حالة البلاد كانت كما صورها أحد علماء السودان في رسالة إلى أستاذه بالأزهر يقول فيها: “… إن الحكومة التي يرأسها غوردون كأسد كاسر والأهالي كالأنعام الضالة لا راعي لها غير الأسد، هذه حالنا اليوم، وأنا أؤكد لك أن هذه الأحوال لن تدوم إلا أيامًا قلائل، وسترى أن الأغنام ستنقلب إلى ذئاب، وسيقودها أسد كاسر، ويموت الأسد الظالم شر ميتة”. وكأنما كان هذا العالم يقرأ من كتاب مفتوح. ثورة السودان: إزاء ما حل بالبلاد من أعمال غوردون وإفساده أخذت النفوس في الغليان واضطرمت النار في القلوب حتى فجرها ثورة عارمة الرجل الطاهر “محمد أحمد المهدي” وليس بغريب أن تقوم في مصر حركة مماثلة في نفس الوقت وعينه هي حركة عرابي، وليس عجيبًا أيضًا أنه كان بين الحركتين مراسلات سرية، فقد كان الغرض واحدًا والظروف التي أدت إليهما واحدة وهي عبث الاستعمار بأقدار السودانيين والمصريين معًا، ولسوء الحظ سقطت ثورة عرابي مبكرة، ووقعت مصر تمامًا في يد الإنجليز، واستمرت الثورة المهدية تتفجر في شتى أنحاء السودان، ورفع لواءها في الشرق أمير أمراء الشرق “عثمان دقتة” وأخذت في تطهير البلاد من رجس الإنجليز أو الكفار – كما كانوا يطلقون عليهم – وأبلى الشعب السوداني في هذا المجال بلاء حسنًا، وجعل الإنجليز يتأكدون أن المقاومة مستحيلة، وكان من الطبيعي أن تخرج انجلترا أو تترك السودان لأهله، ولكن انجلترا المعروفة بالخبث والدهاء دبرت أمرًا، فإذا كان الخروج لابد منه فيجب أن تمزق البلاد أولاً وتتركها شيعًا وأحزابًا ثم تنادي كل الدول المستعمرة لاقتسامها. غوردون مرة ثالثة: وتذكرت انجلترا داهيتها الخبيث فاستدعته للسودان فورًا بحجة الإشراف على إخلاء السودان، وجاءت تلك اللعنة المسماة (غوردون) أراد أن ينفث سمومه على النحو التالي:  حاول الإيقاع بين زعماء المهدية وإثارة التنافس بينهم.  حاول إحياء الأسرات الحاكمة القديمة ودعاهم إلى المطالبة بإرثهم.  بل أكثر من ذلك حاول إرجاع الزبير رحمت باشا ظانًا أنه سينافس زعماء الثورة. ولكن البلاد كانت قد تحصنت ضد هذه السموم، فباء بالفشل وعز عليه ذلك، فبدلاً من أن يجمع فلوله ويخرج غيَّر من وجهته وركب رأسه وأعلن القتال وطلب الامدادات، وكان الله أراد بعد له أن يمزقه السودان جزاءً على محاولته تمزيق السودان، وقتل شر قتله كما تنبأ بذلك العالِم السوداني في رسالته إلى أستاذه بالأزهر. وإذا كان غوردون قد فشل في بذر الفتن وتفتيت وحدة الشعب السوداني الثائر فقد بقي لانجلترا الشطر الآخر من مؤامراتها، فأعلنت بعد سحب قواتها من السودان أن السودان أرض خالية لمن يشاء. (وكان العرف الاستعماري يسمح بالتهام أي بلاد توصف بهذا الوصف) وظلت انجلترا أن حلمها القديم في القضاء على أكبر دولة في إفريقيا قد تحقق، ودخلت في مفاوضات مع الدول المستعمرة من أجل توزيع السودان. وكان من النتائج ذلك ما يلي: أخذت إيطاليا (بيلول) شمال خليج (عصب) والمنطقة الساحلية قرب (مصوع) والجزء الذي يعرف الآن باسم (أرتيريا)، كما سمحت لها انجلترا بأخذ مدينة (كسلا)، ولولا استبسال السودانيين في الدفاع عنها لوضعت إيطاليا يدها عليها. وأخذت الحبشة مدينة (هرر) والمنطقة المحيطة بها.  انتزعت انجلترا الجهات المطلة على بحيرة (فيكتوريا) ووضعت فيها أساس مستعمرة أوغندا وجعلتها كنواة أو مركز لمستعمراتها في إفريقيا.  أخذت بلجيكا القسم السوداني من مديرية بحر الغزال غرب خط ثلاثين. أما فرنسا فلم ترض بنصيبها واختلفت مع انجلترا ورفضت ذلك النصيب، واتفقت مع الحبشة على اقتسام كل الأجزاء الباقية من السودان فيما بينهما، على أن تدخل جيوش فرنسا من غرب السودان، وتقابلها جيوش الحبشة من الشرق، ودخلت جيوش فرنسا حتى وصلت (فاشودة) ورفعت عليها العلم الفرنسي6. الإنجليز مرة ثانية: خافت بريطانيا من فرنسا والحبشة على نصيبها من السودان (وهي التي توزع الأسلاب) فعمدت كدأبها إلى حيلة ماكرة خبيثة فقالت لانجلترا – أي أن انجلترا قالت لانجلترا – أعني أن انجلترا أمرت ممثلها في مصر – وهو الحامك الفعلي آنذاك أن تعود مصر إلى السودان. وجاءت الجيوش بقيادة إنجليزية وخطة إنجليزية وتتستر وراء العلم المصري، وراح القائد الإنجليزي يقول: اخرجوا من السودان فأنا ممثل مصر، ممثل الدولة العلية صاحبة الحق في السودان. وفعلاً وأمام هذه الحجة خرجت فرنسا، وأحبط الاتفاق بينها وبين الحبشة، وعادت انجلترا إلى السودان، وبدأ ما سمي بالحكم الثنائي بناء على اتفاقية بين مصر وانجلترا (بالاسم) وفي الواقع (بين انجلترا وانجلترا) فقد كانت مصر في قبضة الإنجليز تمامًا في ذلك الحين، ويظهر ذلك جليًا إذا ما علمت أن هذه الاتفاقية جاء فيها ما يلي: “… تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد يلقب بـ (حاكم عموم السودان) انجليزي الجنسية، تختاره انجلترا وتعينه مصر”. ولك أن تضحك أو تبكي فهذا هو نص الاتفاقية، الحاكم انجليزي، يختاره الإنجليز وتعينه مصر. أغرب آلة من آلات الحكم، كما يقول المؤرخ السوداني مكي شبيكة. أعطي هذا الحاكم سلطات لم يعرفها التاريخ لفرد واحد في العصور المظلمة، فقد كان المنشور الذي يصدره الحاكم العام له قوة القانون، ومن حقه أن يبطل أو يسن أو يعدل أي قانون (المادة الرابعة من الاتفاقية). سياسة الحاكم الإنجليزي:  من الطبيعي أن يكون هدف الحاكم الجديد هو نفس هدف (غوردون) فلم تتحول انجلترا أبدًا عن تلك الأهداف التي أسلفنا ذكرها – حتى إلى الآن – أما وسائل الحاكم الجديد فكانت أيضًا نفس الوسائل، إلا أنه زاد عليها ما هو اشد منها وأحكم، حيث فضح الشعب وسائل غوردون وفهم خبثها ولؤمها، ولذا عمد الحاكم العام إلى سياسة مستورة ملفوفة في الحرير والديباج. ومن أمثلة ذلك:  اختار جميع المديرين من الإنجليز وأعطاهم سلطات لا حد لها.  جعل معظم الموظفين من الإنجليز وقصر عليهم الوظائف القيادية والهامة ذات الشأن.  اختار موظفيه على درجة عالية من التعليم، وأهلوا تأهيلاً خاصًا لمدة ع ام كامل في لندن، ثم في الخرطوم، حتى يحسنوا تنفيذ الجزء النفسي نم الخطة المدبرة، ومما يدل على الاعتماد على الموظفين الإنجليز اعتمادًا كاملاً، أن لجنة (سودنة) الوظائف حين قدمت تقديرها عام 1955م جاء فيه: “أن عدد الوظائف التي كان يشغلها انجليز 1069 في مجالات الإدارة والبوليس والدفاع والزراعة والغابات والثروة الحيوانية والجمارك والمالية والتعليم والمساحة و…إلخ”. بينما كانت الوظائف المصرية 103 وظيفة، معظمها في السكة الحديد والصحة، وليس بينها وظيفة واحدة في الإدارة أو البوليس أو الدفاع. شمال وجنوب: رأت انجلترا أن كل جهود غوردون وجرائمه وكل مكر ودهاء سياسية الحاكم العام، لم تحقق أهدافها، فما زال السودانيون يتمسكون بالدين الإسلامي، ومازال الإسلام ينتشر داخل الجنوب، ومازال السودانيون – رغم كل المؤامرات والدسائس – يشعرون بالوحدة التي تربطهم وتؤلف بينهم، فأرادت – وقد انفردت بالسودان تمامًا – أن تتخذ تدابير أقسى وأعنف فأصدرت: قانون المناطق المقفولة: ونعني بذلك تحريم دخول بعض مناطق السودان على السودانيين من المناطق الأخرى إلا بتصريح خاص من المدير، يحدد فيه مدة الزيارة ومكانها والغرض منها، وحدد القانون هذه المناطق بما يلي:  مديرية دارفور.  مديرة بحر الغزال.  مديرية منجالا.  مديرية السوباط ومركز بيور.  ما يقع بين مدينتي حلفا ودنقلا إلى الغرب من مسافة 30 ميلاً من النهر.  جميع مديرية كردفان (تقريبًا).  جميع مديرية جبال النوبة (تقريبًا). ومن النظرة الأولى لهذه المناطق، نرى أنها تشمل جهات ذات طابعين مختلفين تمام الاختلاف:  جهات الجنوب التي لم يتم نمو العروبة فيها.  جهات الغرب التي فيها العرب الأشداء وتأصل الإسلام فيها ونمت حضارته. وقد يبدو هذا التباين غريبًا لأول وهلة، ولكن الغرض من ذلك هو قفل مناطق الجنوب لتعدهم على هواها، وقفل مناطق الغرب لتمنع أو تحاصر نور الحضارة الإسلامية حتى لا يصل إلى الجنوب، ثم لتعوق نمو الشعب وتماسكه ولتبعث روح العصبية العمياء. فصل الجنوب: وفي ظل قانون المناطق المقفولة وتحت ستاره اتخذت الخطوات الآتية لإتمام الفصل النهائي بين الشمال والجنوب:   إقصاء الدين الإسلامي من الجنوب وإزالة كل ما يذكر به، فمن ذلك:  إلغاء المحاكم الشرعية من الجنوب. إخراج المسلمين وإبعادهم عن الجنوب، فأخرجت الجماعات المسلمة بالقوة ورحلوا إلى كسلا. نقل السكان حديثي الإسلام من قراهم ومدنهم كما حدث في (كافيا كنجي) وفي (راجا)، وذلك بقصد إبعادهم عن المساجد وتركها للبوم والغربان. عدم استخدام أي مسلم يؤدي شعائر دينه ويتحمس لله في أي عمل بالجنوب، ولذا كان الموظفون الذين يريدون العمل بالجنوب يخفون استمساكهم بشعائر دينهم، كما كان الذين يريدون الرحيل من الجنوب يكفيهم أن يصلوا ركعة واحدة، بحيث لا يراهم أحد الإنجليز فينقلون فورًا. لم تعترف السلطات الرسمية بالأسماء العربية، التي تسمى بها الجنوبيون وأرغمتهم على اختيار أسماء أخرى تقدمها لهم الإرساليات التبشيرية مثل: جون، وليام، أندريه، ألبير.  الفصل التام الحاسم بين الشماليين والجنوبيين، فقررت:  عدم تجديد رخص التجار الشماليين. محاربة اللغة العربية والقضاء عليها. عدم استعمال لفظ (شيخ) أو (سلطان) لرؤساء القبائل حتى لا تحمل إلى الأذهان أي صورة أو ذكرى للعروبة والإسلام. كما منع أبناء الجنوب من الخروج إلى الشمال، ومن يخرج يتعرض للعقوبة.  بذل المستعمر كل جهده لتكوين مجتمع في الجنوب غير مشاكل أو مشابه لمجتمع الشمال. ولذا حرم استيراد الملابس التي يلبسها أهل الشمال (العباءة) (الجلابية) وإن أريد ملابس فليكن القميص والشورت.  ابتكر نظامًا إداريًا وطريقة في الحكم تغاير تمامًا نظام وطريقة الحكم في الشمال.  عمل على نشر اللغات القبلية.  حاول تعليم اللغة الإنجليزية لتكون لغة التفاهم.  عمل على إشاعة روح الذعر والخوف في نفوس الجنوبيين من إخوانهم الشماليين.  استخدم قانون المناطق المقفولة في وقف عملية التطور في الجنوب ليظلوا في حاجة إلى من يرعاهم.  استخدم الإرساليات التبشيرية لتعميق الفصل بين الجنوب والشمال وإمعانًا في التفتيت. كانت هذه الإرساليات من جنسيات مختلفة ومذاهب متعددة، ولكل منها منطقة نفوذ خاصة، وذلك حتى يتفكك الجنوب نفسه، وكان استغلال الإرساليات التبشيرية للمسيحية السمحة نسجًا على منوال غوردون الذي حال بين ملك أوغندا والإسلام، وحاول إدخاله (الدين الأوروبي) كما سماه (غوردون). ومما يدل على وعي هذه الإرساليات بحقيقة الدور الذي أريد منها، وحرصها على عدم الاتصال بين الشمال والجنوب، أنها قدمت تقريرًا جاء فيه: “… ليس من الحصافة تجاهل خطر اتصال الجنوب بالشمال، عبر الممر المائي في منطقة السدود، ويجب غلق هذا الباب، لأن طلبة الجنوب الذين ينتهون من تعليمهم سوف يذهبون إلى كلية غوردون بالخرطوم حيث تسود الديانة الإسلامية”. ومن العجيب أن الإدارة استجابت لهذا التقرير وأوقفت الاتصال بين الشمال والجنوب. وكان المبشرون يرسلون من يرغبون في إتمام تعليمهم إلى كلية (مكرري) بأوغندا – عاصمة الاستعمار الإنجليزي آنذاك – حتى لا يرون الشمال والخرطوم عاصمة بلادهم. كانت هذه الإرساليات تعيش في بذخ وترف لا حد له، رغم أن الحكومة كانت تحمل 98% من نفقاتهم وهي تزعم أنها تساهم في نشر التعليم خدمة للإنسانية. ومما يزيد التأكيد والبيان بهدف التبشير في الجنوب، أن أحد الأفراد الذين أرسلهم غوردون إلى ملك أوغندا عام 1873م قل وهو عائد في الطريق، ووجد في جيبه رسالة إلى المسئولين في لندن تطلب سرعة إرسال مبشرين (لإدخال هؤلاء الوثنين في النفوذ الإنجليزي)، هكذا.. ولعل هذه كانت أول صيحة لاستخدام المسيحية السمحة سلاحًا في يد الاستعمار. كانت الطرق التي تشق بالجنوب تتجه إلى أوغندا مركز الاستعمار البريطاني في إفريقية. وقد يبدو للبعض أو يطوف بالذهن أن هذه التدابير ربما كانت مصادفة لا رابط بينها، ولكن من يطلع على بيان الحاكم العام الذي أصدره عام 1930م عن سياسته في السودان نجده يذكر كل هذه التدابير وبكل تفصيل. الهدف من تعويق تطور الجنوب: إن انجلترا قد صرحت بهذا الهدف بكل جرأة، لا تحسد عليها أمام مجلس الأمن في سنة 1947م عند نظر شكوى مصر، وتنديدها بإجراءات إنجلترا في الجنوب، فقال المندوب الإنجليزي أن ضم الجنوب لسائر جهات إفريقية أي مستعمرات بريطانيا قد تدرسه هيئة دولية فيما بعد، إذ ربما كان في ذلك فائدة لهذه المناطق. كما رأينا تصريحهم بشأن فصل الجنوب في تقرير جماعة (الفابيان) التي تمثل فلاسفة حزب العمال: أن كل الادعاءات تتضاءل أمام الاعتبارات التي تحتم فصل جنوب السودان عن منطقة العرب في الشمال لأنه ينتسب إلى قارة إفريقية، أما منطقة الشمال العربية فلا ينتسب لإفريقية في نظرهم. وتكشف انجلترا النقاب عن هدفها من فصل الجنوب وتعويقه حين يطالب المفاوض المصري عام 1950م إعطاء السودان حق تقرير المصير، فيقول المفاوض الإنجليزي: إن سحب جيشنا من السودان أمر غير عملي لأن انجلترا مسئولة عن شعب السودان، وعن 2,5 مليون من الوثنين في الجنوب محتاجين إلى الحماية الإنجليزية من أهل الشمال الذين يتكلمون اللغة العربية، أي ليبق السودان متأخرًا حتى يكون في حاجة إلى رعايتنا، فإذا نضج فليبق الجنوب خائفًا من الشمال حتى تبقى لطمأنته والمحافظة عليه، وانظر هنا العنصرية والطائفية الدينية التي تزكي إنجلترا أوراها وتتمسك بها وتدعو إليها في القرن العشرين. صمود الإسلام: بعد كل هذه الجهود الدائبة ماذا كانت النتيجة؟ هل تحققت أحقاد المستعمرين والمبشرين وأطماعهم؟  ليسمح القارئ الكريم أن أقدم إليه بعض الحقائق والنتائج:  أعلن الجنوبيون في المؤتمر الذي اضطرت انجلترا إلى عقده في جوبا عام 1947م أنهم لا يريدون إلا الاندماج في الوطن الأم مع إخوانهم الشماليين.  فشلت كل الإرساليات التبشيرية في نشر المسيحية فما زالت الأغلبية وثنية، وكل الذين تبعوا هذه الإرساليات عددهم 180 ألفًا من 2,5 مليون.  مازال عدد المسلمين يزداد، وذلك بدون مساندة من دولة أو مساعدة من جمعية، وصار عدد المسلمين أضعاف عدد المسيحيين.  مازالت قبائل الجنوب تتفاهم فيما بينها باللغة العربية المعروفة بلهجة (جوبا).  اضطرت انجلترا للتسليم بوحدة السودان في اتفاقية عام 1953م وخرجت صاغرة تمارس ألاعيبها مع الخونة والمرتزقة من خلف الستار.  في سنة 1965م عقد الجنوبيون مؤتمرًا في الخرطوم لم يجدوا وسيلة للتفاهم غير اللغة العربية.  من تصريحات المسئولين يظهر بوضوح أن المتمردين ليسوا إلا حفنة ضئيلة من العملاء والمرتزقة.  هناك حزب قوي من أبناء الجنوب ينادي بضرب الخونة والمرتزقة، والمحافظة على وحدة التراب السوداني. ألستم معي أيها القراء الكرام أن شعب السودان يستحق التحية في شماله وجنوبه، إذا خرج بعد كل هذه التدابير واثقًا بنفسه مؤمنًا بوحدته، وأن المستعمر الحاقد قد فشل فشلاً ذريعًا. وأخيـــرًا: وقد رأينا كيف .. ومتى .. وأين .. ولحساب من .. غزلت ونسجت مشكلة الجنوب، ومن الذي غزلها ونسجها، يحق لنا أن نسأل: بأي وجه تتباكى دول الاستعمار على الجنوب المتخلف والإنسانية المعذبة؟ ماذا فعلت طوال حكمها الذي استمر ما يقرب من مائة سنة من 1877 – 1956م؟ أليست هذه هي تركتها وهذا هو إرثها شمال متخلف وجنوب يعيش في عصر ما قبل التاريخ؟ أليس الواجب على الأمم المتحدة أن تسجل على هؤلاء الإنجليز – رواد الحضارة وسند الإنسانية – كيف داسوا حقوق الإنسان بأقدامهم في جنوب السودان وكذلك في شماله؟ من لنا يسجل على هؤلاء المجرمين جرائمهم؟ هؤلاء الذين يحتضنون المتمردين ويتباكون، هؤلاء الذين على ما لحقهم من (ظلم وعسف واستبداد) على يد إخوانهم الشماليين. نقول له: حقًّا .. إذا لم تستح فافعل ما شئت .. أو قل ما شئت. حقائق عن الجنوب: ولعل من المناسب أن أقدم بعض الحقائق السريعة الموجزة عن الجنوب: تبلغ مساحته حوالي 25% من مساحة السودان. يبلغ تعداد سكانه حوالي 25% من عدد سكان السودان.  ينقسم إداريًا إلى ثلاث مدريات: بحر الغزال وعاصمتها (واو) والاستوائية وعاصمتها (جوبا) وأعالي النيل وعاصمتها (ملكال). ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث مجموعات رئيسية: القبائل النيلية، القبائل النيلية الحامية، القبائل السودانية. وأهم القبائل النيلية: (الشلك، والدتكا والتوبر)، وتكون هذه القبائل أغلبية سكان الجنوب، وتعتمد على الرعي والصيد وتقيم في بحر الغزال وأعالي النيل. وأما القبائل السودانية فمقرها الجنوب الغربي، وأهم قبيلة فيها هي قبيلة الزاندي، وهذه القبائل تعتمد على الزراعة حيث لا تسمح الطبيعة بالرعي وتربية الماشية، لانتشار ذبابة التسي تسي. يتكلم أهل الجنوب حوالي 50 لهجة مختلفة من لهجات السودان البالغ عددها 110 لهجة، ولكن لغة التفاهم بينهم جميعًا هي اللغة العربية، كما ذكرنا من قبل باللهجة المعروفة بلهجة (جوبا). Page Break المحتويات جنوب السودان8 السودان والتاريخ:8 غوردون مرة ثانية:13 أساليب غوردون:13 أثر خطة غوردون:15 ثورة السودان:15 غوردون مرة ثالثة:16 الإنجليز مرة ثانية:17 سياسة الحاكم الإنجليزي:18 شمال وجنوب:19 قانون المناطق المقفولة:19 فصل الجنوب:20 الهدف من تعويق تطور الجنوب:23 صمود الإسلام:24 وأخيـــرًا:25 حقائق عن الجنوب:26

د.عبد العظيم الديب