مقالات تربوية

بر الوالدين

switch off icon switch on icon

د. عبد العظيم الديب

جامعة قطر – كلية الشريعة

ألقيت بمدرسة الخنساء الابتدائية للبنات

فُطر الإنسان الكريم على أن يعرف لوالديه حقهما من غير أن ينبه أحد أو يُرشده إلى ذلك، فمن الطبيعي جدًّا والمنطقي جدًّا أن يبر الإنسان والديه، وليس في حاجة إلى هذه التوصية لو كان مستقيم الطبع سليم النفس، فإن الإنسان يتميز عن جميع الكائنات التي خلقها الله سبحانه وتعالى بميزة .. ما هي؟ العقل..

العقل ميزة الإنسان، ولكن هناك ميزة أخرى قد لا تخطر على ذهن أحد، وهي أن جميع الكائنات لا تحضن صغارها إلا ساعات أو أيامًا. لو تأملنا في كل مخلوقات ربنا نجد كل هذه المخلوقات صغيرها يستغني عن والديه بعد ساعة أو ساعتين من ولادته، فالدجاج مثلاً لا يحتاج إلى وقت، فبمجرد أن يخرج يعيش وحده، وبعض الطيور بعد يوم أو يومين أو ربما أسبوع، بعض الكائنات أو الحيوانات الأخرى إلى خمسة عشر يومًا إلى عشرين يومًا ولا تزيد.

لكن كم يحضن الإنسان أبناءه وبناته؟ .. فالإنسان مدى الحياة يظل في حضانة والديه، المدارس والجامعات أيضًا ما هي إلا حضانة، في أول الأمر كان الوالدين وحدهما يتوليان التربية والتعليم، ولكن بعدما تطورت الدنيا صار التعليم يحتاج إلى مؤسسات وإلى نظم وإلى أشياء كثيرة، فمن أجل ذلك قامت المدارس والجامعات لتقوم بدور الأب ودور الأم، فنحن نعطي أبناءنا للمدرسة عدة ساعات لكي تعدهنَّ.. فالمدارس أيضًا محاضن، ولذلك فإن للمعلمات والمعلمين منزلة الأب والأم، لا شك في ذلك، فإنهنَّ يعتبرن أيضًا بمنزلة الأمهات والآباء.

هذا الفرق الواضح في خلقة الإنسان ما نتيجته؟ .. نتيجيته أو ثمرته هو أن الإنسان وحده هو الذي يرتقي، كل جيل يرتقي عن الجيل الذي سبقه، بينما كل الكائنات الأخرى موجودة منذ خلقها الله تعيش كما هي، تسكن كما كانت تسكن، وتأكل كما كانت تأكل، لم تتطور، لكن الإنسان هو الذي تطور، لا تقولوا لأنه يملك العقل، لكن لأنه يعيش في حضانة .. لماذا؟ .. هذه الحضانة تلخص له تجارب الأمم السابقة، بمعنى أن الآباء والأمهات وأن المدرسة والجامعة باعتبارها حضانة بديلة وأمًّا بديلة وأبًّا بديلاً تقدم خلاصة التجارب السابقة للأمم السابقة في كلمات وفي نصائح وفي دروس وفي كتب، فيكون الإنسان على علم بكل ما مر بالبشرية من قبل ويبدأ بعقله.

فهنا يدخل دور العقل يتطور وينمو ويستخدم الخبرات السابقة والتجارب السابقة، ويبرز هنا دور الأجيال – أي أجيال الآباء والأمهات – فهو دور مهم جدًّا وخطير جدًّا، فهي تعطي هذا الجيل الناشئ كل تجاربها وكل خبراتها حتى يقف عليها مرتفعًا، ثم يأتي جيل بعده على خبرة الجيل التالي فيقف أعلى، وهنا تتطور الإنسانية وتتطور البشرية وترتقي..

لو أن البشرية لا تتعلم من الأجيال السابقة ومن الآباء والأمهات، وتبدأ تجرب وتبدأ الحياة مثلما بدأها الجيل الذي قبلها فإنها ستنتهي إلى ما انتهى إليه الجيل السابق، وتبقى البشرية مكانها لا تتقدم ولا تتطور.

خلاصة هذا القول أنه يبين أن الأجيال السابقة دائمًا تؤدي للأجيال اللاحقة خدمة، وتؤدي لها واجبًا، فالأجيال القديمة ترفع، والأجيال التالية على رؤوسها وعلى أكتافها، وأظن أن من رفعنا على أكتافه وفوق رأسه وأحاطنا بعنايته ورعايته وعطفه من الطبيعي والمنطق أن يكون له حق الإكرام وحق التبجيل، فنحن حينما ننادي بالإحسان إلى الوالدين ونقول إنه أمر طبيعي وأمر فطري، فهذا ثمرة طبيعية لما قدمه لنا الآباء والأمهات، فإن هذا أمر في الفطرة والجبلة.

والإنسان بطبعه إذا كان كريمًا مفطورًا على أن يرد الجميل فهذا الجميل الذي قدمه لنا الآباء يجب أن نؤدي بدورنا حقه.

وقد يتساءل البعض: وماذا يريد منا الآباء والأمهات؟ .. الجواب سهل والحمد لله: لا يريد منا الآباء والأمهات أكثر من أمر واحد بسيط وهو أن نستوعب الدرس، أي أن نتعلم ما يقولونه لنا .. كل الاختلاف بين الأبناء والآباء وبين الأجيال سببه أن هناك بعض المنحرفين وبعض المنحرفات لا يريدون أن يتقبلوا هداية الآباء والأمهات، ولا يريدون أن يتقبلوا توجيه وتعليم ودروس الآباء والأمهات، وهذا في الواقع شذوذ في الفطرة وانتكاس في الخلق.. الفطرة السليمة أن الإنسان يسمع ويعي درس وتجربة آبائه وأمهاته.

إذن الجيل السابق يقدم لنا جميلاً ويقدم لنا خدمة .. الجيل السابق يرفعنا على رأسه وعلى كتفيه ويقدم لنا خبرته ملخصة موجزة، فما جزاؤه منا؟ .. لا يريد منا الجيل السابق إلا أن نتقبل الهدية، والمشكلة دائمًا حينما يشكو الآباء والأمهات لا نجدهم يشكون من أن الأبناء لا يدفعون لهم أو لا يعطونهم، ولكن يشكون من أمر واحد هو أنهم لا يسمعونهم ولا يطيعونهم، والآباء خلقهم الله سبحانه وتعالى حريصين على مصلحة أبنائهم، ومن أجل هذا وصى الله سبحانه وتعالى الأبناء بالآباء والأمهات، ولم يوص الآباء بالأبناء والأمهات بالأبناء، بمثل القوة التي وصى بها الآباء، لأن الطيبة والرحمة مفطورة في قلوب الآباء والأمهات، ولذلك دائمًا حينما ننظر في حياتنا نجد أن الآباء والأمهت يقدمون ويعطون ويمنحون، وإذا كان هناك من ألم أو ضيق أو غضب منهم نجد سببًا واحدًا، وهو أن الأبناء لا يتقبلون ذلك من الآباء، حينما يطلبون البر بهم وحينما يطلبون الإحسان إليهم، إنما يطلبون الخير أيضًا للأبناء لأنهم يطلبون أن يحسن الأبناء إلى الوالدين، بمعنى أن تتقبلوا منهم الخبرة والتعليم.

معرفة حق الوالدين:

نجد أن الإنسانية على طول فترتها لم تشك هذا ولم تشكه إلا في هذه الأيام.

بالنسبة للأديان: فالأديان كلها وتعاليم السماء كلها نجد أنها تدعو إلى البر بالوالدين، ففي وصف يحيى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا{مريم:14}، وفي وصف عيسى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا{مريم:32}. فكأنه من صفات المدح للأنبياء أن يكونوا بررة بوالديهم، فنجد نبينا محمد  يذكر والدته ما شاء الله له أن يذكر.

مما ورد في الحديث الصحيح الشريف أن النبي  استأذن أصحابه وهو في الطريق، وعرج – أي مال عن الطريق إلى ناحية منه – وغاب لحظة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون رسول الله  ويخشون عليه، فلما غاب عنهم وقتًا ما تلفتوا وذهبوا حوله، فذهب إليه عمر بن الخطاب  ووجده جالسًا بجوار علامة من الحجر يبكي، فقال: يا رسول الله بأبي وأمي ما يبكيك؟ .. قال: هذا قبر أمي .. فبكى وأبكى من حوله.

كان  سنة في هذا الوقت أكثر من 53 سنة، ومع ذلك لم ينس أمه بعد 48 سنة، وظل يذكرها، وذات مرة وهو يمر بالطريق أيضًا بكى، فقال له سيدنا عبد الله بن مسعود  حتى أنت يا رسول الله؟ فقال: أدركتني رحمتها فبكيت”. وظل يذكرها وهو في المدينة، حينما زارت المدينة معه وكان سنة خمسة سنوات، فكان يقول: هاهنا نزلت بي أمي، وعلى سطح هذا البيت كنت مع فلان من الصبية الذين كانوا في مثل سنه الشريف . وظل  يذكر أباه وأمه، وكان يقف على قبر أبيه ويقول: هنا قبر أبي..

هنا نجد الفطرة السليمة للنبي  يعلم بها أصحابه درسًا عمليًا، كيف يكون الوفاء للآباء والأمهات.. هذا الدرس ليس مجرد ألفاظ تقال وتُنسى، وإنما عمل وتنفيذ. ونجد أن النبي  يعي هذا الدرس الذي جاء به القرآن الكريم، فيتلو على الناس قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أول شيء في الإسلام هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الشرك به، ثم قال: وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا{النساء:36} الأمر التالي مباشرة بعده، بل نجد أكثر من ذلك حين يقول سبحانه وتعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ثم وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا {العنكبوت:8} يعني أن الله سبحانه وتعالى وصى الإنسان بوالديه حسنا، وإذا كان الوالدان كافرين لا تطعهما، لكن صاحبهما في الدنيا معروفًا.

فعظمة القرآن الكريم تتجلى بالأمر بطاعة الوالدين وحسن مصاحبتهما، ولو كانا كافرين.. يقول القرآن الكريم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {الإسراء:23} أي حكم وأمر ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا، ثم وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{الإسراء:24}.

ثم نجد القرآن الكريم يكرر الوصية بالإحسان، ونجد الحديث الشريف يدور حول هذه المعاني، فنجد النبي  يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ) أكبر الذنوب التي لا تغتفر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، والعقول ليس معناه أن يُنادى الأبناء فلا يلبون، وليس معناه أن يؤمروا فلا يطيعون وأن يوصوا فلا ينفذون دائمًا، لا، ولكن ما هو أقل من ذلك العقوق الذي عبر عنه القرآن الكريم: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا{الإسراء:23} ولذلك يقول النبي  : (لو علم الله ما في العقوق أدنى من كلمة أف لحرمها) أي أن العقوق الذي هو من أكبر الكبائر ليس مجرد العصيان وعدم الطاعة وعدم السمع ورفض الطلب، ولكن مجرد التوقف في إجابة الطلب أي مجرد كلمة أف.

فهذا الحديث يؤكد أن كلمة أف تعتبر من العقوق، ونجد أيضًا في الوصايا الموجودة في سورة الأنعام يقول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {الأنعام:151} فنجد دائمًا يقرن حق الله مع حق الوالدين.

حق الله بالتوحيد والعبادة دائمًا مقرون مع حق الوالدين، بيانًا لعظمة هذا الحق ولقدره ولمنزلته. جاء رجل إلى النبي  وقال له: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله؟ .. قال: (الصلاة على أول وقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين).

ولكنا نعلم أن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات إلى الله، فهناك ذنوب لا يكفرها شيء إلا الجهاد في سبيل الله، لا يكفرها الصيام ولا الصلاة ولا الصدقة. قالوا: إلا أن يخرج الرجل بسلاحه في سبيل الله وبماله فلا يرجع من ذلك شيء – أي يستشهد في سبيل الله – فكأن الشهادة في سبيل الله من أكبر المنازل والقربات، ومع ذلك هناك حديث للنبي : جاءه رجل فقال: أبايعك يا رسول الله على الهجرة والجهاد. فقال : (هل أحد من والديك حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: أتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد).

وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، أريد أن أخرج معك إلى الجهاد. فلعل النبي  علم أن له أُمًّا طاعنة في السن، وحين يكبر الآباء يكونون أحوج إلى البر وإلى الرحمة. فقال له النبي : (ألك أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فتحت قدميها الجنة) أي بر الأمهات وطاعتهنَّ يساوي الجهاد في سبيل الله.

ونجد أن النبي  يقول: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه) عندما كان يجلس مع صحابته قال هذا القول. (قالوا: يا رسول الله: مَن؟ قال: من أدرك أحد أبويه فلم يدخل الجنة).

ونجد النبي  يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فانظر حفظت الباب أم ضيعته). ونج النبي  في كثير من أحاديثه ينص على هذا حينما يأتي رجل فيقول: يا رسول الله، لقد بررت والديَّ طوال حياتهما حتى لقيا الله وهما عني راضيان، هل بقي على برهما شيء؟ فيقول: (نعم.. الدعاء لهما).

وورد أن الرجل ترفع درجاته بعد الموت، فيقول: يا رب لي هذا “الخير الذي أتاني من أين؟ ” فيقال له: بدعاء ولدك لك.

أي أن الدعاء يصل إلى الوالدين، وأن الله سبحانه وتعالى يرفع بالدعاء درجات الوالدين، وخير الدعاء ما علمنا إياه القرآن الكريم، وهو: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء:24} صباحًا ومساءً.

وروي عند عبد الله بن عمر  أنه كان يسير في الطريق فوجد رجلاً من الأعراب، فنزل له عن دابته التي يركبها، وليس معه شيء آخر يركبه، وأعطاه عمامته لتقيه من الحر، فقال له أصحابه: ما هذا يا ابن عمر!! تعطي دابتك لهذا الرجل وتعطيه ما يقيك من الشمس وتعرض نفسك لكل هذا العناء؟ فقال: إنه كان صديق عمر، وإن من البر بعمر أن يبر صديقه.

هذا هو المنطق السليم والفطرة السليمة أن يبر الابن أصدقاء والده وأصدقاء والديه بعد موتهم، ولا يكتفي بالبر في حياتهم.

وحديث السيدة أسماء رضي الله عنها، حينما جاءتها أمها – وهي مشركة – فقالت للنبي : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي مشركة وهي راغبة، أفأصل أمي؟ فيقول النبي : (نعم .. صلي أمك).

والآن ماذا يصنع الناس بأمهاتهم؟؟ بل نجد أيضًا فيما روي عن عمر بن الخطاب  أنه ذات يوم مر بالسوق فوجد حُلة جميلة عند رجل يبيع ملابس – رداء جميلاً – وكانت هذه الأشياء نادرًا ما تنزل المدينة لأنه لم يكن عندهم مصانع نسيج، فاشتراه وذهب إلى النبي  فنظر إليها النبي  فوجدها من حرير والرجال لا يلبسون الحرير، فقال له النبي : ما هذا يا عمر؟ قال: يا رسول الله تلبسها يوم الجمعة وتتزين بها للوفود. وهذا يدل على حب المسلمين لرسول الله . فقال: (يا عمر هذه لباس من لا خلاق له، هذه من حرير) ورفضها النبي . وبعد ذلك جاءت هدية إلى الرسول  من ثياب من حرير فوزعها على أصحابه، فلما أرسل منها واحدة إلى عمر، جاء عمر يقول: يا رسول الله هذه من حرير وأنت يوم ذاك قلت كذا وكذا، فكيف تبعثها إليَّ؟ فتبسم النبي  وقال: (لا لتلبسها يا عمر، ولكن لتلبسها بعض نسائك)، ولكن عمر لم يلبسها لبعض نسائه، وإنما أرسلها إلى أخيه المشرك بمكة واستأذن النبي  في ذلك فأذن له.

فالعواطف النبيلة السليمة لا تبر الآباء فقط، وإنما تبر الأخوة والأخوات، وكل الأقارب وتصل الرحم.

وروي عن رجل من الصالحين كان يرعى الأغنام، ويعود بها في المساء، وكان يحلب بنفسه ويأخذ الحليب على يده من الإناء ويذهب به إلى والديه، وكان طاعنين في السن، وكان لا يذهب إلى أبنائه ولا إلى زوجته إلا بعد أن يشرب والداه. وذات يوم تأخر في المرعى، ولما عاد وجد والديه نائمين، فكره أن يعود بالحليب إلى أبنائه وزوجته، وظل واقفًا طيلة الليل والحليب على كتفه حتى استيقظا في الفجر، فنظرا إليه وقالا: أهذا أنت؟ منذ متى يا بني؟ قال: منذ العشاء!

أما فيما روي عن المأمون والخليفة العباسي، فأنتم تعلمون ن هارون الرشيد قد فتك بالبرامكة وسجنهم ويقول المأمون: ما رأيت أحدًا أبر بوالديه مثل الفضل بن الربيع. قالوا: كيف؟ قال: كانا في السجن وكان أبوه يتوضأ بماء دافئ وكان الجو باردًا، فكان يوقد له الحطب حتى يدفأ الماء، فأراد الحراس أن ينتقموا منهم ويشددوا عليهم، فمنعوا الوقود عنهما، ففكر الفضل وكيف يتوضأ أبوه في صلاة الفجر ولم يشغله أمر مثلما شغله هذا..

يحكي الخليفة المأمون فيقول: قصد الفضل إلى إناء من نحاس فملأه بالماء، وحمله بيده فوق المصباح، وظل واقفًا طوال الليل حتى أصبح الصباح، وصلى والده الفجر بالماء الدافئ.

وروي عن النبي  يقول: (دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت من هذا؟ فقال: حارثة بن النعمان، ذلك البر.. ذلك البر)، وكان أبر الناس بأمه، فكان جزاؤه الجنة.

ونجد أن رجلاً كان يطوف حول الكعبة ويحمل أمه على ظهره، فرأى النبي  وكأنه أعجبه هذا العمل فقال: أتراني وفيّت حقها؟ .. فقال : (ولا بزفرة). وكان أعرابي يطوف حول الكعبة ويحمل أمه على ظهره، وكان يقول: إني لها مطية لا أذعر، إذا الركاب نفرت لا أنفر،ما حملت وأرضعتني أكثر، الله ربي ذو الجلال أكبر.. وكان سيدنا عبد الله بن عباس واقفًا فقال له: يا ابن عباس، يا ابن عم رسول الله، أتراني الآن قد وفّيت حق أمي؟ قال: (ولا بلحظة).

ونذكر قصة رواها الإمام أبو الليث السمرقندي  يقول: فيما روي عن أنس  أن رجلاً كان اسمه علقمة، وكان متصدقًا مصليًّا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ فيفضل زوجته وأبناءه على أمه، فلما حضرته الوفاة بدأ بالنزع والآلام الاحتضار، فطالت هذه الساعة وطالت أيامًا وهو يموت ولا يموت، يعاني آلام الاحتضار ويلقنونه الشهادة فلا يستطيع أن ينطق بها، وهاله كرب شديد.. فشكا الصحابة ذلك إلى رسول الله ، فعلم النبي  أن هذا لا يكون إلا بذنب قد ارتكبه.. ولكننا لا نعرف لهذا الرجل ذنبًا، فهو رجل صالح، فقال النبي : (هل له أم؟ قالوا: نعم. قال: ائتوني بها) فذهبوا إليها فقالوا: يا أم علقمة تعالي لرسول الله ، فجاءت فقال : (ماذا تعرفين عن ابنك؟ .. فقالت: صوّام قوّام، متصدق، كذا وكذا وسكتت .. قال: أكملي. قال: ماذا كان يعمل معك؟ وماذا كان موقفه منك؟ فتأملت وأوشكت أن تبكي، وقالت: كان يفضل زوجته وأبناءه وبناته عليَّ ولا يطيعني ويعقني، فقال لها: يا أم علقمة، إن ابنك الآن بسبب هذا الذنب يعاني ما يعاني من سكرات الموت وشدته، فارضي عنه. فقالت: أبدًا لا أرضى عنه، ففكر النبي  في أمر يجعلها ترضى عنه، فقال: إذًا هذا الرجل لا يموت إلا بطريقة أخرى، اجمعوا حطبًا لنحرقه، فضربت الأم بصدرها، وقالت: تحرق ابني؟ فقال : حتى نريحه مما هو فيه إذا أردت ألا نحرقه فارضي عنه، فبكت ورفعت يديها إلى السماء وقالت: إني راضية عن ابني، فذهبوا إليه فوجدوه يرفع صوته قائلاً: لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، وقد زال عنه ما كان به من كرب، وما كان به من شدة.

فانظروا كيف يصنع غضب الأم وكيف يصنع رضاء الأم.

لو رجعنا عشرون سنة أو ثلاثون سنة نجد أن من كان يغضب أمه أو أباه كان يرتكب خطأ فظيعًا، أما الآن فقد أصبح هذا الخطأ شائعًا ومألوفًا .. لماذا؟

مع كثرة العلم والتعليم ووجود رجال الدين والأحاديث يحدث هذا.. لماذا؟ .. والجواب عليه هو أن الأجيال تتفاوت، الجيل القديم كان يعطينا تجربته، ولكن نحن وللأسف بمجرد أن نصبح في سن العاشرة أو الثانية عشر سنة نقول عنهم إنهم لا يعرفون شيئًا؛ لأن الشاب في الجامعة والبنت كذلك، والآباء لم يذهبوا إلى المدرسة ويظنوا أنهم أصبحوا أحسن من آبائهم وأمهاتهم، فنحن نظن أن العلم هو الموجود في الكتب، لكن علم الحياة والخبرة في الحياة أمر يجب أن يكون له وزنه وأن تكون له قيمته، وربما يأخذ الشاب أعلى الشهادات، ولكن يبقى لوالده حق السبق.

قد يكون فعلاً من الناحية العلمية أعلم من أبيه، ولكن هل معنى ذلك أن يسفه آراء أبيه؟ .. فالأمور يجب أن يوضع لها حد، وألا تكون العلاقة بين الوالدين والأبناء أو بين الجيلين مبنية على التنافر وعلى التكبر.. ولكن يجب أن نعطي الآباء والأمهات حقهم، وأن نعرف أن هذا الذي نحن فيه الآن من تطور ورقي إنما هو بسبب الأجيال السابقة، وأننا ما وصلنا إلى هذا الرقي إلا بفضلهم والأب هو الذي هيأ الأبناء وعمل وتعب ووجه وراقب واعتنى ولاحظ وقوّم، حتى حصل أبناؤه على أعلى الشهادات.. إذن من هو صاحبا لفضل في كل شيء؟

وهنا نقول مَنْ بنى المدارس والجامعات أليست الأجيال السابقة؟ .. فلذلك يجب أن تعلم أن للآباء قدرتهم، وإن اختلفت وجهات النظر، فهذا شيء طبيعي، فعلى الأبناء أن يعالجوا هذا الموضوع بالحكمة والروي، وأن يعطوا الآباء حقهم من السمع والتوجيه، وكذلك وسائل الإعلام وخطورتها فيما يُسمى بالمدنية والحضارة، وهذا شيء موجود.

إن الأخلاق عماد الأمم، وبالأخلاق تنهض الأمم والشعوب. ونختم القول بحديث رسولنا  الذي لخص رسالته وبعثته كلها في كلمة واحدة، وهي: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

د.عبد العظيم الديب