مقالات فكرية

من قضايا الثقافة الإسلامية

switch off icon switch on icon

في بدايات الهجوم على اللغة الفصحى التي تزعمها المستشرق الألماني ولهلم سبيتابالدعوة إلى اتخاذ العامية لغة للأدب وللعلوم مع وضع قواعد لها .. الأمر الذي انقسم معه الكتَّاب ما بين مؤيد ومعارض.. ومن المؤيدين لهذه الدعوة كان أمين شميلالذي تخرج في مدارس الأرساليات، وتنبأ في حماس بموت اللغة الفصحى، ثم مضى يسخر منها.

إن من أراد كسبًا ماديًا وعلميًا فيختر لغة غير العربية، أية لغة أجنبية إن كتبت بها راجت كتابتك، وإن طلبت تحصيل علم فيها وجدت كتبًا لا تحصى في غاية الضبط والكمال امتلأت منها خزانتك: منها أقوال أجدادك (يعني ما حوته كتب الغرب من أفكار مأخوذة من العرب) ومنها من تصفحها ونقحها وعلمها وشرحها وزاد فيها من اضدادك، بثمن (أرخص من الفجل)، فإذا اشتبه عليك معناها وجدت الوفا يكشفون لك غوامضها ويجلون لك عقدها. نعم إن في لغة الطفولة لذة ووطنية، إلا أن الوطنية الحقة (دعنا من الكلام الفارغ) قائمة في المعاني لا في الألفاظ، أعني في صيانة حقوق الأفراد، وأحكام العدل والتسوية والالتفات إلى الأمة ولغتها، وعدم إعطاء خبز البنين لغيرهم. فإذا فعلت هيئتنا (يقصد دولتنا) ذلك هان علينا كل شيء، وإلا فأنت تضرب في حديد بارد، وكانت الوطنية قولهم: ضرب زيد عمرًا، واشتعل الرأس شيبًا(1).

وهكذا ترى أن المستغرب أمين تقدم خطوة بل خطوات إلى المستشرق الألماني (ولهلم سبيتا)، فبينما صاغ المستشرق الألماني دعوته في ثوب من الموضوعية والجدية، صاغ المستغرب اللبناني دعوته في ثوب من التهكم والاستهزاء بالعربية وتاريخها وآدابها وعلومها، مهونًا من شأن تراثها، زاعمًا أنه فقد قيمته بسبب تطور العلوم، وما كان فيه يستحق النظر قد انتقل إلى لغات الغرب: الإنجليزية والفرنسية وأخواتهما، بل لم ينسى أن يهزأ بشكل الكتاب العربي ورداءة خطه، وسوء طباعته، وبدائية تجليده.

وما كان لنا أن نطيل في عرض رأي أمين شميل بهذه الصورة إلا أننا هدفنا من ذلك إلى:

إظهار المشاعر والعواطف التي وراء هذا الكلام، فإن اللفظ والتعبير ينبئ عما تحته من عواطف ومشاعر وانفعالات.

بيان خطورة هذا اللون من الغزو الفكري، حيث يجد الغزاة الحقيقيون (الأجانب) من يحمل معاولهم، ويقوم بالغزو بدلاص عنهم، فيتم لهم ما يردون من غير أن تظهر بصماتهم على أدوات الجريمة ومسرحها.

بيان خطورة هذا الصنف من الأتباع والأذناب، وأنه – بوعي أحيانًا وبغير وعي حينًا – يسبقون أسيادهم ويفوقون أساتذتهم.

الجولة الثانية:

وبقيت المعركة مشتعلة الأوار، وبقي من أشعلها يرقب الموقف هو وجنوده، حتى إذا خبت نار المعركة، وهدأت حدة المنافسة، وبدأ أن الاقتناع بها غير قريب، حينئذ أطلق (ولمور) طلقة جديدة، مذكيًا للمعركة، مؤذنًا بالجولة الثانية.

كان ولمور هذا أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية في مصر، وقد ألف هذا القاضي الإنجليزي سنة 1902م كتابًا عما سماه لغة القاهرة، ووضع لها فيه قواعد، واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية.، وكان من الطبيعي أن تتلقف (المقتطف) هذا الكتاب أيضًا كما تلقفت كتاب (ولهلم سبيتا) من قبل تلقفت المقتطف كتاب (ولمور) بالتقريظ والتمجيد.

وتبعت المقتطف مجلة الهلال التي أسسها بمصر الشامي (جورجي زيدان) ففي عدد الهلال الصادر في 15 مارس سنة 1902م – 5 ذي الحجة 1319هـ السنة العاشرة، ص373 – 377، تحت عنوان (اللغة الفصحى واللغة العامية) كتب اسكندر المعلوف يدافع عن العامية، وقال: إنه يشتغل بضبط أحوالها وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابة العلوم، وقد أكد في هذا المقال أن اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو من أهم أسباب تخلفنا الثقافي، وزعم أن من الممكن اتخاذ أي لهجة عامية لغة للكتابة كالمصرية أو الشامية، وأنها ستكون أسهل على سائر المتكلمين بالعربية على اختلاف لهجاتهم من العربية الفصيحة. كما زعم أن تعلق المسلمين باللغة الفصيحة لا مبرر له لأن هناك مسلمين كثيرين لا يتحدثون بالعربية، ولا يكتبون بها، ولأن اللغة التي يتكلمها المسلمون هي غير العربية الفصيحة على كل حال، وقال: إن كل ما يطالب به هو وضع قواعد هذه اللغة التي يتكلمون بها فعلاً وواقعًا، وختم المقال بقوله:

وما أحرى أهل بلادنا أن ينشطوا من عقالهم، طالبين التحرر من رق لغة صعبة المراس قد استنزفت أوقاتهم، وقوى عقولهم الثمينة وهي مع ذلك لا توليهم نفعًا، بل أصبحت ثقلاً يؤخرهم عن الجري في مضمار التمدن وحاجزًا يصدهم عن النجاح.

ثم يقول: ولي أمل بأن أرى الجرائد العربية وقد غيرت لغتها، وبالأخص جريدة الهلال الغراء، التي هي في مقدمتها، وهذا أعده أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي ومنتهى رجائي“1”.

هكذا بلك صراحة منتهى أمله ورجائه أن تغير الصحف لغتها العربية.

وعلى الجانب الآخر كان هناك الوطنيون المخلصون والعلماء الباحثون يردون ويدافعون، وعامًا بعد عام أخذت المعركة تميل نحو الهدوء، وبدأ للمتربصين من الغزاة أن الثمرة لما تزل بعيدة، فعلى الفور انطلقت شرارة جديدة.

(*)(*) راية الإسلام 2/7/1980 .

(1)(1) هذا ملخص أمين شميل كما نشره عبد الله النديم في صحيفة التنكيت والتبكيت، العدد الخامس 10 يوليو 1881م. انظر عبد الله النديم بين الفصحى والعامية، ص140 – 143.

د.عبد العظيم الديب