مقالات فكرية

أصول الأفكار وجذورها

switch off icon switch on icon

تابعت في إحدى الصحف اليومية معركة حول خطأ صلاح الدين الأيوبي في موقفه من إعدام (السُّهْرَوَردي) كان ذلك بين كاتب أديب وقاضٍ فاضل. ولستُ لتلخيص القضية، أو عرضها وإبداء الرأي فيها الآن.

وإنما الذي راعني هو أن يقع هجوم على صلاح الدين الأيوبي (الآن) في هذه الأيام بالذات، فقد جزعت أشد الجزع، وفزعت كل الفزع وأنا أرى هذا العنوان يتصدر موضوعات العدد الأسبوعي للصحيفة (إعدام حكيم الإشراق وإحراق مؤلفاته كان أبشع ما اقترفته يدا صلاح الدين الأيوبي).

وأنا على ثقة بأن الأخ الأديب لم يكن منتبهًا لما قال، أو بالأحرى لخطورة ما قال، وقد كان صادقًا كل الصدق حينما جعل عنوان رده ودفاعه عن نفسه (لستُ بالفقيه ولا المؤرخ .. وإنما أنا امرؤ شاعر).

والذي يلفت النظر حقًّا هو: كيف جمح القلم بصاحبه وهو يكتب عن الشعر والشعراء، واستطرد إلى دفع البطل صلاح الدين بما دمغه به.

لا شك أن هذا لا يكون إلا لأن هذا المعنى حيٌّ قائم في نفسه، مختزن في شعوره، وضمن مكوّنات ثقافته، ومفردات أفكاره، وجزيئات معلوماته!!

فمن أين جاءه هذا المعنى؟ ومن الذي ألصق هذه التهمة بدءًا بصلاح الدين قاهر الصليبيين؟

لقد ذكرتُ أني قرأت هذا الكلام من قبل، وحاولت أن أبحث عن مصدره في زوايا الذهن، وضنايا الذاكرة، فلم أستطع إلا أن الصدفة البحتة وحدها ساقت النص لي، فوجدته أمامي، وجدت أن صاحب هذا الكلام أصلاً هو (سلامى موسى) ذلك الصليبي المعروف في كتابه (حرية الفكر وأبطالها في التاريخ).

وأبدًا لا أريد أن أقول: إن الأخ الأديب الكاتب قد نقل عن (سلامة موسى)، فلو كان هذا لهان الأمر. ولكن المأساة أن كلام (سلامة موسى) هذا سري من قلم لقلم، ومن لسان للسان، ومن مكان لمكان، وصار متدًّا ولا معروفًا حتى أصبح (تراثًا) شائعًا لا ينسب لقائل، ولا يعرف له مصدر، وهنا مكمن الخطر، حين تسري الأفكار والآراء سريان السم البطيء، لا يتنبه له المصاب، وهو يفتك به ويمزق أحشاءه.

ولقد أدرك غزاتنا ذلك، فراحوا يلقون الفكرة ويبذرون الكلمة هنا وهناك، في غير تطلع إلى ثمرتها، وبدون دعوة إليها، أو محاولة حمل الناس عليها وشعارها (إن كانت هذه الكلمة تفرق اليوم في كل واحد فغدًا تقتلع الأوتاد).

إن الأفكار المسمومة تنثر نثرًا خبيثًا، وكأن صاحبها لا يعني بغرسها وريِّها وسقيها، ويظهر كأنه لا يريد جناها وثمرها، ولكنه يعلم أنها كالبذور التي تطوحها الرياح في الصحراء، يومًا ما سيأتيها مطرًا وطل، فتنبت، وتثمر، وساعتها لن يعلم أحد من كان وراءها، ومن بثّها، ومن هنا تكون الخديعة ويكون الخطر.

لقد كتب (سلامة موسى) هذا الكتاب عن حرية الفكر وأبطالها في التاريخ، جَلَد فيه تاريخ المسلمين حكّامًا وفقهاء وجماهير، ودافع فيه عن اليهود، لان هذه الكراهية (لهم) قائمة على عصبيات وأغراض قديمة تحتاج لتربية طويلة لقشعها عن الجماهير. (ص129).

كما دافع عن القرامطة والحشاشين، ومن نحا نحوهم وسماهم (أحرار المفكرين) الذين لا يرون في الدين سوى وسيلة لإذلال الشعب. (ص106).

وعنده أن جمهور المسلمين في الأندلس (أغبى جمهور في العالم الإسلامي كله، قد ركبه الفقهاء، واستغلوه لمصالحهم، ويوجهونه إلى أية ناحية يريدونها). (ص131).

أما صلاح الدين الأيوبي (فكان رجلاً كرديًا غير مثقف، فاستطاع الفقهاء أن يؤثروا فيه). (ص133). وعلى طول كتابه يدس السم في الدسم.

ولو أنصف (سلامة موسى) لقال: إن أبطال حرية الفكر في التاريخ ليسوا السهروردي، وابن رشد والقرامطة، وإنما كل مسلم معاصر في مصر المحروسة يعتبر بطلاً من أبطال حرية الفكر، إذ سمحوا له أن يكتب ما كتب عن دين الأمة وعقيدتها، وسخر من شريعتها ومبادئها، وطبع كتبه وباعها لهم وربح من أموالهم.

فليست هناك حرية فكر، بل (حرية إلحاد)، بل (حرية عدوان) بل (حرية خيانة)، بل (حرية تزييف) أكثر مما مارسه (سلامة موسى) بين المسلمين، وهم ساكتون، بل راضون، بل منهم من يطالب بتخليد ذكره وتسمية الشوارع والميادين باسمه..

وإلى الله المشتكى.

*****

** نشرت في الأمة، عدد صفر، سنة 1405هـ.

د.عبد العظيم الديب