راية الإسلام


إنما هو البحث عن الجذور
ليس ما نتناوله في هذه الكلمات – التي نطرحها على أبناء أمتنا – فكرًا تبريريًا، يحاول أن يبرر تخلفنا وهواننا، ويبحث عن المشجب الذي يعلق عليه أخطاءنا ويرد إليه أسباب ضعفنا، ويحمله وحده تبعة ما نحن فيه.
وليس أيضًا تفسيرًا (تآمريًا) للتاريخ، يفسر الأحداث على أنها من صنع أيدٍ خفية تمسك بالخيوط تحرك بها الأحداث، وكأنها الأحجار على رقعة الشطرنج.
ليس هذا ولا هذا أريد.
ولكن
ولكن نريد أن نتتبع جذور الأفكار وأصولها، والأوكار التي نبتت فيها، والسموم والأحقاد التي تغذت بها, وما لم نصل إلى ذلك لن نستطيع أن نجتث هذه الجذور، ونطهر فكر أجيالنا وثقافة أبنائنا من سمومها.
ثم إننا حينما نعرف هذه (الجذور) وندرك مصدرها سنعرف عدونا الحقيقي، وحينئذ نحسن الحوار مع (الأساتذة الكبار) فنرد أفكارهم إلى أصولها وجذورها، فلا نحملهم تبعتها ونؤاخذهم بجريمتها.
وأؤكد أيضًا أننا عندئذٍ لن نتهم (الأساتذة الكبار) في نياتهم، حيث نعرف سر خطئهم والفرق واسع جدًّا بين المخطئ والمتآمر، وربما لو دار الحوار من هذا المنطلق لكان له من الثمرة ما نرجوه.
فهؤلاء (الأساتذة الكبار) مع تبنيهم للدعوة إلى العلمانية وحملهم الأمة على منهج (التغريب) لا يريدون – فيما هو ظاهر لنا – إلا الخير، وعلينا – إن كنا نقصد وجه الله وحده – أن نجادلهم بالتي هي أحسن، كما أمر سبحانه في شأن من هو أسوأ منهم.
ثم أؤكد أن استعمال لفظ (الأساتذة الكبار) لا يراد به أبدًا السخرية، فحاشاي أن أخالف (المنهج) وإنما هذا اللفظ استعمله في وصفهم شيخي وأستاذي الأستاذ محمود شاكر مدَّ الله في عمره ونسأ في أثره.
هذا هو سيد الأدلة:
حتى لا يكون كلامنا عن مراكز التبشير ومؤسساته التعليمية التي أنشأها في بلادنا كلامًا عامًا فضفاضًا، وحتى لا يكون تجنيًا على القوم وظلمًا لهم، نعرض لبعض أقوال واعترافات لمسئولين كبار تؤكد – بالإضافة إلى ما قلناه سابقًا – صدق ما نقول، ولا تدع مجالاً لمشكك أو مرتاب.
كتب رئيس أحد المعاهد التبشيرية الكبرى بحثًا في إحدى مجلاتهم يبين دور مؤسسته، ومكانها، ويحدد واجباتها، ويرسم لها طريقها، ويتحدث عن آثارها، فكان مما جاء فيه:
“إن الجامعة – يقصد جامعته التي يديرها – توفر مناخًا نفسيًا، لا يستطيع واحد الإفلات من تأثيره“.
انظر يؤكد الرجل بكل صراحة سيطرة المناخ النفسي، ولاحظ المناخ النفسي حيث يتم التغيير من الداخل. ثم يستمر قائلاً:
والطالب لا يعي حقًّا التغيرات الحاصلة دائمًا في داخله، وقد يُنكر، بل نية حسنة، أنه يتأثر تأثيرًا شديدًا بمحيطه“.
هنا مكمن الخطر فعلاً وحقًّا، والرجل يُدرك ما يحصل في نفوس الطلاب!! “الطالب لا يعي حقًّا التغيرات الحاصلة بداخله” وضع تحت كلمة بداخله عشرين خطًّا، وانظر أيضًا: “الطالب ينكر بكل نية حسنة أنه يتأثر تأثرًا شديدًا بمحيطه“، قارن هذا بما تراه عند (الأساتذة الكبار) تجدهم فعلاً لم يعوا التغيرات التي حصلت لهم، وتجدهم يصرخون في وجهك، منكرين بحسن نية أنهم لم يتأثروا تأثرًا شديدًا بمحيطهم، أليس هذا هو الواقع؟! ألم أقل لكم إنهم معذورون.
لم تنته الاعترافات بعد، فالرجل يستمر قائلاً: “وثمرة هذه البذرة قد لا تأتي إلا بعد مدة طويلة من مغادرة الطالب للكلية” فالرجل واثق بأنه مسخه من الداخل، ولاحظ استعمال لفظ (بذرة) فهو غير متعجل للثمرة، فما بين (البذرة) و(الثمرة) مسافة طويلة لا تهم، المهم أنه عرف كيف يضع (البذرة) في مكانها الصحيح.
ولذلك يقول مطمئنًا: “فحينما يذهب هذا الرجل يمهد الطريق للتربية، ويهدم الطغيان – يقصد قوة الدولة الإسلامية طبعًا – ويخفف حدة التعصب – يقصد تعصب المسلمين طبعًا – “.
ولك أن تتساءل كم من (القادة) قادرة الفكر والرأي، والفلسفة والفن، تخرجوا في هذا المعهد وأُعدوا هذا الإعداد! وفي المؤكد أن هذا المعهد ليس فردًا وإنما هو نمط ونموذج، وصورة لكل معاهد التبشير وأوكاره.
وهذا أيضًا ليس استنتاجًا منا، فالرجل يقوله صراحة، حيث وصف جامعته هذه بنفسه قائلاً: “وهي مؤسسة تبشيرية متميزة، وهي نموذج مطابق تمامًا للكليات والمشروعات التبشيرية الأخرى، ليس لها بالتأكيد علامات مشروع تبشيري تقليدي، ولكنها في الوقت الذي تسخر فيه جهودها لإعطاء الطلاب تربية عصرية صلبة، وتصنع منهم مهنيين فاعلين، لا تعتبر أن مهمتها قد انتهت، بل إنها تهدف في الأساس إلى تعليم طلابها، مما تتمسك هي به كقيمة أسمى في الحياة“. وهو إن تبنى المثاليات النصرانية وهو الأسلوب الأفضل لتحضير الإنسان ليلعب دورًا ذا قيمة في هذه الحياة.
وانظر حولك لترى كيف وإلى أي حد تحققت هذه الأهداف!! وكيف تحولت قيادتنا الثقافية والفكرية إلى الإيمان بهذه القيم التي قادت إليها، ودعت إلى تثبيتها المؤسسات التبشيرية.
وهذا الكلام يقصد به طبعًا أبناء المسلمين الذين يدرسون عندهم وعلى أيدهم، فما بالك بغير المسلمين حين يتخرجون في هذه المعاهد ويقودون الفكر والثقافة والفن في أمتنا لنحو قرنٍ كامل!!
والتزامًا بالمنهج والإنصاف نقول: إن هناك معادن صلبة استعصت على الصهر والتشكيل، فخرج من هذه المعاهد بعض من أصحاب الفكر النقي والعقل السوي.
والآن ألست ترى معي أن (الأساتذة الكبار) معذورون، فهم لا يشعرون ولا يدركون. ولو كان الأمر بيدي لجمعت هذا التاريخ ليدرس ويعلم في معاهدنا ومدارسنا، لنعرف كيف كان ما كان.
مقالات تاريخية أخرى
هوامش على تاريخ الحجاج
صار كل من يكتب في التاريخ في عصرنا هذا يذكر ضرب الحجاج للكعبة بالمنجنيق، ويخرج هذا القول مخرج الخبر الثابت الذي لا شك فيه، ومن هنا لا يكلف نفسه بمناقشة الخبر، والنظر في صحته أو سقمه، بل صار هناك منهج عجيب، يجعل شيوع الخبر على ألسنة العامة دليلاً على صحته، وعلى هذا المنهج جرى معظم الأدباء حينما يتناولون التاريخ بأسلوب القصة أو المسرحية ، ولذا رأينا قضية ضرب الكعبة بالمنجنيق - لبشاعتها - مجالاً للتصوير بأقلام الأدباء، والتلوين ببراعتهم وفنهم، ويُعرض هذا بأبلغ صوره، وأفظع هيئة على المشاهدين، فتقشعر لها الأبدان، وتغلي النفوس، ويبوء الحجاج بما يستحقه بسبب هذا الجرم الشائن، وهو بالقطع بريء من هذا.شيخ الإسلام ينفي هذايقول شيخ الإسلام بن تيمية: "ومن قال إن أحدًا من خلق الله قصد رمي الكعبة بمنجنيق أو عذرة، فقد كذب، فإن هذا لم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام، والذين لا يحترمون الكعبة كأصحاب الفيل والقرامطة لم يفعلوا هذا، فكيف بالمسلمين الذين يعظمون الكعبة!! ولما قُتل ابن الزبير، دخلوا بعد هذا إلى المسجد الحرام، فطافوا بالكعبة، وحج بالناس الحجاجُ بن يوسف ذلك العام، وأمره عبد الملك بن مروان ألا يخالف عبد الله بن عمر في أمر الحج، فلو كان قصدهم بالكعبة شرًّا، لفعلوا ذلك بعد".انتهى كلام شيخ الإسلام بنصه.وهذا هو الكلام الذي يقتضيه عقل العقلاء المنصفين، ولا يُمليه تحامل المتحاملين، وبغضاء المبغضين.فلو قصد الحجاج الكعبة بالمنجنيق، وضربها من هذا الارتفاع الشاهق، من فوق جبل أبي قبيس، فهل كان يبقى منها حجر فوق حجر - والعياذ بالله - وهل يقبل العقل أن مسلمًا يصلي الخمس مستقبل القبلة يفعل هذا ؟ ولو فرضنا جدلاً أن الحجاج انسلخ من الدين – حاشاه – وأراد بالكعبة شرًّا، فهل كان جنوده وأركان حربه كلهم مثله؟ أيقبل عقل عاقل أن يرتد عن الإسلام جيش الحجاج بكامله، فلا يوجد فيهم من يصيح في وجه الحجاج: ويلك يا عدوَّ الله؟ أم تراهم كانوا خانعين خاضعين أذلاءيضربون الكعبة التي يعظمونها ويصلّون إليها ولا يستطيعون أن يقولوا للحجاج: لا ؟ أيصح هذا في عقل عاقل ؟؟سيقول قائل: ولكن المنجنيق قد نصب، والضرب قد حدث، فهل تنكرون ذلك؟؟ونقول: فرقٌ كبير، وبونٌ شاسع بين أن يقال: نصبت المنجنيق لضرب ابن الزبير، وأن يقال: نصبت لضرب الكعبة. فرق كبير وبون شاسع بين أن يقال: ضرب الحجاج معسكر ابن الزبير بالمنجنيق، وأن يقال: ضرب الكعبة بالمنجنيق.وشاهدٌ من مآسي عصرنا..في فجر اليوم الأول من المحرم سنة 1400هـ فوجئ المصلُّون بجماعة تبايع شخصًا بين الملتزم والحجر الأسود على أنه المهدي المنتظر، ورفعوا السلاح، وغلقت أبواب الحرم، دوّى الرصاص في أرجائه، ونادى هؤلاء المعتصمون بالحرم كل الحكام والمسؤولين بالسمع والطاعة والبيعة لهذا (المهدي)!!!وكان ما كان من حصار هؤلاء في داخل الحرم، واستخدام أفانين وضروب من الأسلحة لفك أسر الرهائن من المصلين والطائفين الذين أغلقوا عليهم أبواب الحرم أولاً، ثم لتطهير الحرم منهم ثانيًا.كان ما كان مما تقشعر الأبدان لذكره!! فهل يقول قائل: إن الحكومة قصفت الحرم بالقنابل، وأحرقته بالغازات، وهدمته بالدبابات؟؟ حاشا لله!!هذه حادثة عشناها، ورأيناها، وأحاط الجميع بها خبرًا، وهي تشبه واقعة ابن الزبير تمامًا، فكلاهما لاذ بالحرم، وكلاهما لقي مقاومة من السلطان حتى استسلم ، وفي الحالين كانت دماء وقتلى في داخل الحرم ، فلماذا موقف الحجاج وحده يفسَّر بأنه عدوان على الكعبة بالمنجنيق؟؟ ولماذا هذه البشاعة في تصوير موقف الحجاج؟ واتهامه بكائنةٍ لا تكون من مسلم يقول:لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، هل أدمنَّا جَلْد ماضينا؟ هل صار تشويه تاريخنا متعة لنا، وملهاة نتلهى بها عن واقعنا البئيس ؟ ثم هل من حق من يتناول التاريخ في عمل أدبي أن يخترع أحداثًا لم تكن؟؟ ( للحديث بقية )
د. عبد العظيم الديب
التاريخ.. وسلطان العاطفة
لا أحد ينكر سلطان العاطفة ـ أية عاطفة كانت ـ على الإنسان، فأنت تستطيع أن تحاور صاحب فكرة حول فكرته، أو تجادل صاحب رأي حول رأيه، وقد تنجح ـ إذا أحسنت تقديم الأدلة والبراهين ـ أن تصرف صاحب الفكرة عن فكرته، أو صاحب الرأي عن رأيه. أما صاحب العاطفة فهيهات هيهات، لن تستطيع أن تحوّل من يحب أو يكره، عن حُبّ ما يحبه، أو كراهية ما يكره، أو تحوّل من يزدري ويحتقر إلى احترام وتقدير ما يزدريه أو يحتقره!! وسبب ذلك أن العاطفة غيرُ الرأي والفكر، فالعاطفة تتكون بهدوء، وعلى مدًى طويل، فالعاطفة أمرٌ معقّد مركّب، ذلك أنها تبدأ بالإدراك والشعور والميل والنزوع، ثم ترتقي حتى تصبح عاطفة تنشب في القلوب، وتصبح محل حماية ورعاية، ويصعب مناقشة صواب موضوعها أو خطئه، ويصبح بديهية من البديهيات، ومسلمة من المسلّمات. ومن ثم تصبح هذه العاطفة هي الموجه لتصرفات صاحبها، والدافع له نحو كل ما يُشبعها ويستجيب لها، وبالتالي النفور والمقاومة لكل ما يضادها أو يخالفها، وأصدق ما يصور ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يُعمي ويصمّ" (رواه أبو داود في سننه، وسكت عنه، وقال الحافظ العراقي: يكفينا سكوت أبي داود). وأحب أن أؤكد هنا أن العاطفة ليست بالضرورة نقيضاً للعقل، فالعاطفة لا تُبنَى، ولا تنمو، ولا تنشأ إلا عن مجموعة من الخبرات، والإدراكات، والإنكار، والآراء، فإذا صحت هذه الأفكار، وصدقت هذه الآراء، نشأت عنها عاطفة سليمة قويمة، تدفع إلى الطريق الصحيح، والموقف الصائب. فإذا صح عندك هذا، وأدركْت مدى سلطان العاطفة، فاعلم أن دراستنا للتاريخ الإسلامي المبْتسرة الممزّقة، قدّمت لنا معلومات منقوصة، وأخبارًا مبتورة، وأحداثًا مختلقة، وساندتها وسائل الإعلام المختلفة بالأفلام والمسلسلات والمقالات، وبالتكرار واللجاجة، والإلحاح نشأ من ذلك كله صورة شوهاء عن تاريخنا الإسلامي، استقرت في أذهان مثقفينا عامة، وعنها نشأت عاطفةُ نفور، بل ازدراء وكراهية للتاريخ الإسلامي في مجمله، وخرجت قضية تصحيح التاريخ الإسلامي من مرحلة تصويب أفكار وتصحيح معلومات إلى تعديل عواطف وتصحيح ميول واتجاهات، وهيهات هيهات. ولكي تدرك صحة ما أقول حاول في مجلسٍ من مجالس المثقفين، أهل الفكر والنظر، ولْيكونوا من الإسلاميين: العلماء والدعاة والمنظّرين، حاول في مجلسٍ أن تذكر تشويه التاريخ الإسلامي، وأن تتحدث عن وجهه المضيء، وإنجازات بني أمية، وحضارة بني العباس، وعدل معاوية، وفقه عبد الملك بن مروان، وورع الرشيد، وعلم المأمون، وجهاد المماليك، وفتوحات الأتراك...الخ إنك أن فعلت ذلك ستجدهم يستقبلون حديثك بفتور، ولا يكادون يطيقونه، ويتملْملون، مما يجعلك مضطراً إلى إيجاز كلامك والإمساك عنه. ثم إذا سكتّ وأمسكت، ستجد من ينبري لك مادّاً قامته رافعاً هامته، يحدثك عن (الموضوعية) في كتاب التاريخ، و(الأخطاء) و(السلبيات) وضرورة ذكرها (للعظة) و(الاعتبار) وعن (المآسي) و(الظلمات) في تاريخنا. ولا تهدأ (مشاعره) حتى يذكر من وقائع هذا التاريخ ما تقشعر منه الأبدان. ثم لا ينسى أن يغمزك، ويسفه حديثك، فيتكلم عن (السذاجة) في محاولة كتابة التاريخ الإسلامي على أنه كله (إيجابيات) وننسى (السلبيات). ثم حاول مرة ثانية ـ في هذا المجلس نفسه ـ أن تستفتح حديثاً عن المستشرقين، وتكلم عن أفاعيلهم في خدمة الاستعمار والتبشير، وعن أثرهم في تخريب ثقافة الأمة، وتدمير جهاز تفكيرها، وأن منهم من كان يحمل رتباً عسكرية في الجيوش التي حطمت الخلافة، وكان من قادة الفيلق الذي دخل القدس عام 1917م وهو يقدم بين يديه صفوفاً من الكرادلة، ورجال الإكليروس، يتلون صلواتهم، وأهازيجهم، احتفالاً بتحقيق الغاية من الحروب الصليبية وسقوط القدس. ثم انظر وانتبه لمشاعر (هؤلاء العلماء والدعاة والمنظّرين) وهم يستمعون منك هذا الكلام عن المستشرقين، وقارن بينها وبين مشاعرهم عندما كنت تتكلم عن إشراقات التاريخ الإسلامي. سنجدهم أيضاً يتململون، وقد لا يطيقون استمرارك في الحديث، بل سيقاطعك قائلهم:" لا نريد أن نكون متحيزين"، وآخر يكمل:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا" ثم يتسابقون إلى الحديث عن خدمات المستشرقين للقرآن الإسلامي، وعن تحقيقهم لهذا الكتاب أو ذاك، وعن (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث)، وعن (مناهجهم) و(موضوعيتهم)...الخ وستجد من يصفك (بالحدّة) وآخر (بالعنف) وآخر يسوقها لك في صورة دعابة: (يا أخي أنت متطرف). والفرق بين الموقفين هو (العاطفة)، فالذين لم يتحملوا التقدير والثناء على تاريخنا ورجاله هم بأعينهم الذين لم يطيقوا إدانة المستشرقين، وكشف جرائمهم، ووراء ذلك في الحالتين كانت (العاطفة). *** هذه صورة لمواقف (حقيقية) وقعت فعلاً، وآخرها حدث من عدة أسابيع، عندما جمعتنا جلسة ضيقة هادئة، ضمت عدداً ممن يعملون بالدعوة، ويعيشون لها، وكان من بينهم بعض قادة الفكر والتنظير، وجرى الحديث ـ بالطبع ـ حول هموم الأمة ومآسيها، وعن التيارات الفكرية التي تتجاذبها، وكان لا بد أن ننعطف نحو التاريخ، فالأمم الواعية تُهرع إلى تاريخها تستلهم منه العظات والعبر، فكان مما قلتُ: إننا ظلمنا تاريخنا ظلمًا بيّنًا، وقرأناه على غير وجهه، فالأتراك العثمانيون الذين شهد لهم المؤرخون الغربيون بالعدل والتسامح، نشأنا نحن على تبشيع أمرهم، ووصفهم بالجهل والظلم، وأنهم جاءوا بلادنا العربية غزاة قساة، ومستعمرين طغاة، ضربوا علينا أسوار الجهل والتخلف حتى استيقظنا على طلقات مدافع نابليون. مع أن القراءة الصحيحة لتاريخنا تؤكد أنهم ما جاءوا إلى مصر والشام والجزيرة إلا لحماية البحر الأحمر من هجمات البرتغاليين التي تكررت على جدة بقصد الاستيلاء على الحرمين الشريفين، ثم تطرّقتُ إلى نُتفٍ سريعة موجزة عن مواقف بعض الصحابة في الفتنة فُهمت على غير وجهها... وكما توقعتُ، وجدتُ التململ، وعدم الإقبال، بل والنفور، فأمسكتُ عن الحديث، وهنا انبرى أخ كريم وأستاذ جليل قائلاً في حدّة ظاهرة: لا بدّ من ذكر الأخطاء والمآسي في التاريخ الإسلامي، ولا بد عند كتابة التاريخ من ذكر (السلبيات) وعدم الاكتفاء (بالإيجابيات). فقلتُ: إننا أبداً لا يمكن أن نتخلى عن المنهج العلمي الصارم بكل ضوابطه عند كتابة التاريخ، ولكن الأستاذ الجليل ظل في حدته بل غضبه يكرر لا بد من ذكر الأخطاء والسلبيات ـ ولم يكفه قولي بالإلتزام بالمنهج العلمي ـ ثم أردف قائلاً:"يعني الأتراك اللّي بتتكلّم عنهم دُول كان الواحد منهم عندما يتولّى الخلافة يقتل كل أخواته" قالها هكذا باللهجة، ثم ظهر عليه الارتياح، وكأنه اشتفى من الأتراك الذين لم يطق أن يذكروا أمامه بخير. وأنبه هنا إلى أمور: 1ـ إن حديثه هذا لقي قبولاً وارتياحاً لدى صحيح الحاضرين (وإن يكن بدرجات متفاوتة). 2ـ أنني لم أقل أبداً: إننا لا نذكر الأخطاء، فكيف فُهم من كلامي أننا لا نذكر الأخطاء؟؟ 3ـ أن بناء عبارته وألفاظها (الأتراك اللّي بتتكلّم عنهم دول) هذا البناء يدل دلالة واضحة على مخزون البغض والكراهية والإزدراء للأتراك. 4ـ أؤكد أن الأستاذ الجليل صاحب هذا الموقف ليس وحده، بل هو مثال لكل علماء الإسلام ودعاته (إلا القليل النادر). 5ـ وآخر ما أنبه إليه: أنني لا أحكي هكذا ثالبًا أو عائبًا، فصاحب هذا الموقف أخٌ كريم، وعالم جليل، له جهاده وجهوده، وهو نموذج لأساتذة كبار، أصحاب فضل، تعلمنا منهم وتتلمذنا على أيديهم. ثم إنني ـ أبداً ـ لا ألوم علماؤنا وأئمتنا، فعذرهم بيّن واضح، فهم لم يعرفوا من تاريخ أمتهم إلا تلك المزق التي تلقوها في التعليم العام، وعلى المناهج التي صيغت بأيدٍ خبيرة ماكرة، صاغها (دنلوب)، ولم يدرس علماؤنا وقادة الرأي فينا إلا ما قدمته له هذه المناهج، التي شكلّت وجدانه، وصاغت عاطفته، ثم كبر الواحد منهم وصار علمًا من الأعلام في فنّه الذي تخصص فيه، وأصبح رمزاً من رموز الفكر، وواحداً من النخبة التي تقود الأمة وتوجهها، ولم تُتحِ له فرصة لمراجعة وتصحيح ما تعلمه، واستقر في ذهنه من صورة مشوهة عن تاريخ أمته، وأحكام خاطئة صارت بمثابة بديهيات غير قابلة للنقاش، ولا هو بمستطيع أن يعيد القراءة والمراجعة لهذه الأمور التي بعُدت عن مجال تخصصه، ولا هو نفسياً ـ من حيث السنّ ـ يقابل أن يعيد التكوين والتعديل لاتجاهاته، ومشاعره، وعواطفه.
د. عبد العظيم الديب
التاريخ يعيد نفسه
اعتدت كلما راعني من حاضر أمتي ما يروع، وفزّعني من واقعها ما يفزع، أن ألوذ بالتاريخ، وأبدًا تاريخ أمتي لا يخذلني، فدائمًا أجد فيه التفسير وأجد فيه العزاء، وأجد فيه الأمل. وفي الشهور الماضية تولى (كاتب فنان)1 من هؤلاء (القرامزة) الذين يحملون (المطرقة والمنجل) يهوون (بمطرقتهم) على كل أصيل تليد ليحطموه ويزيلوه، ويتربصون (بمنجلهم) لكل نبتة لأمل، وكل عود للمستقبل، ليحصدوه، يمهدون بذلك (للدب) المستوقز .. حمانا وأعاذنا الله. تولى هذا الكاتب (سَحْل) خيار صحابة رسول الله r حيث مكنت له كبرى الصحف العربية اليومية، على طول أربعين أسبوعًا (زد أو انقص منها قليلاً) مكنت له من صفحة كاملة كل أسبوع، يصول فيها ويجول، ولا من دافع ولا رادع " طلب الطعن وحده والنزالا". فمن له مثل هذا الموقع ليردع؟؟ ومن يملك مثل هذا المنبر ليدفع؟؟ وحيل بين الكتاب والعلماء والرد، حيث كانت تُحوّل كل الردود والتعقيبات إلى هذا الكاتب فيطويها، ويخفي ذكر أصحابها، ويوجعهم همزًا ولمزًا، وسبًّا وشتمًا. ومن عجب أنه يعود ليبكي ويندب الرأيَ المكبوت، والفن المرءود، ويستصرخ كل من هب ودب، على "كهنوت الرقابة الدينية" و"غوغائية علماء الدين" و"استبداد الهيئات العلمية والروابط الإسلامية"!! (رمتني بدائها وانسلّت). لُذت كعادتي بالتاريخ - تاريخ أمتي - فقال لي: لا تُرع إنه ضلال قديم، كَيْده مفضوح وسهمه طائش، وسيفه مغلول. وأقرأني صفحة أسلافهم، صفحة (القرامطة)، وقال لي: لو تقرؤون !! لو تتدبرون !! لو تتنبهون!! فهل تأذنون أن أشرك قراءكم الكرام في قراءة هذه الصفحة التي أقرأنيها التاريخ !! صفحة القرامطة؟ كم أكون شاكرًا لو أذنتم، حتى أؤدي الأمانة التي حمَّلنيها التاريخ. القرامطة إحدى فرق الباطنية، الذين اختصهم الإمام الغزالي (حجةُ الإسلام) بكتاب من كتبه، تحدث فيه عن (فضائحهم) وجرائمهم وخبائثهم.. ومما جاء فيه: منهج القرامطة: جاء هذا المنهج كما كشفه الإمام الغزالي على لسانهم، إذ قالوا: نتحصَّن بالانتساب إلى الروافض والاعتزاء إلى أهل البيت، ونتودد إليهم بما يلائم طبعهم: من ذكر ما تم على أسلافهم من الظلم العظيم، والذل الهائل، ونتباكى لهم على ما حل بآل محمد r ونتوصل به إلى تطويل اللسان في أئمة سلفهم، الذين هم أسوتهم وقدوتهم، حتى إذا قبَّحنا أحوالهم في أعينهم وما ينقل شرعهم إلا بنقلهم وروايتهم، انسد عليهم باب الرجوع إلى الشرع، وسهل علينا استدراجُهم إلى الانخلاع من الدين"اهـ (بنصه ص19). هذه هي خطتهم، وهذا هو منهجهم كما ترى: ادعاء الغيرة على الإسلام وتجليه مبادئه. تمجيد آل بيت المصطفى عليه الصلاة والسلام. البكاء على ما أصاب آل البيت وحل بهم. التوصل بذلك إلى سب أئمة الصحابة وكبارهم وتقبيح أحوالهم. سد الباب بين المسلمين وشرعهم حيث قبحوا الصحابة وما ينقل الشرع إلا من جهتهم. (انتبهوا أيها السادة) هذه هي خطة القرامطة (وانظروا حولكم). وسائل القرامطة: كان للقرامطة وسائل يستدرجون بها الأتباع، ويصطادون بها الأنصار والأشياع، وهي مرتبة على درجات بدقة بالغة، تعتبر بحق مثالاً لعبقرية (العمل السري) كما سماها أحد الباحثين المحَدثين. أما الإمام الغزالي (حجة الإسلام) فقد سماها: (درجات حيلهم) وهي: 1- التفرس2- التأنيس3- التشكيك4- التعليق5- الربط6- التدليس7- التلبيس8- الخلع9- السلخويقول الإمام الغزالي: "في الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأمة". وهاك شيء من تفصيل حيلهم: أما التفرس: فمعناه أن يكون الداعي فطنًا ذكيًّا يميز بين من يمكن استدراجه ومن لا يمكن قادرًا على تأويل النصوص والإيهام، بأن لها باطنًا لا يعرفه كل أحد. كما يكون قادرًا على أن يقدم لكل واحد ما يتفق مع مزاجه وميله ومذهبه. وأما حيلة التأنيس: فهي أن يجتهد الداعي في التقرب إلى من يدعوه، والتظاهر له بالتنسك والتعبد، والمواعظ الرقيقة، والتبشير بأن الفرج منتظر. وأما حيلة التشكيك: فهي أن يجتهد الداعي في تغيير اعتقاد المستجيب، وذلك بالأسئلة عن الحكمة في مقررات الشرع، وغوامض المسائل، ومتشابه الآيات، وأسرار الأرقام في مثل: سبع سموات، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، عليها تسعة عشر. وأما عن حيلة التعليق: فتكون بأن يطوي عنه سر هذه الشكوك، ويوهمه بأنه يملك حقيقتها ويعرف كُنهَها، ولكن لا يمكن البوح بها لكل أحد، ولا في كل حين، بل لابد من عهود ومواثيق على من يريد معرفة هذه الأسرار، ويتركه هكذا معلقًا. وأما حيلة الربط: فتأتي بعد التعليق، بأن يربطه بأيمان مغلظة، وجهود مؤكدة، لا يجسر على المخالفة لها بحال، (ومن اطلع على نسخة العهد يقشعر بدنه لهذا الإرهاب الذي ينطق به). وأما حيلة التدليس: فتكون بالتدرج في بث الأسرار إليه بعد أن ربطه بالأيمان والعهود المؤكدة، إذ يأخذ في إطلاعه على قواعد المذهب شيئًا فشيئًا، ويوهمه أن لهذا المذهب أتباع كثيرون، ولكنه لا يعرفهم، بل له أن يسمي بعض المرموقين الذين يُقتدى بهم (على شرط أن يكونوا في بلاد أخرى لا يمكن مراجعتهم) مدعيًا له أنهم على نفس مذهبه. وأما حيلة التلبيس: فتكون بالاتفاق على بعض المسلّمات، والقواعد البدهية، ثم يستدرجه منها إلى نتائج باطلة، وذلك بعد أن يكون قد أسلم له قياده. 9- الخلع والسلخ: وهما بمعنى واحد، إلا أن الخلع يختص بالعمل، فإذا أسلم المستجيب قياده وبدأ العمل والتنفيذ لما يريده منه القرامطة، يكون قد انخلع عن مجتمعه، ووصل إلى درجة الخلع. وأما السلخ: فيختص بالاعتقاد الذي هو خلع الدين، واعتقاد فلسفة المذهب قلبًا وإيمانًا بعد أن أخذها منهجًا وعملاً. هذا تفصيل تدريجهم الخلق واستغوائهم، فلينظر الناظر فيه وليستغفر الله من الضلال. وإلى الله المشكتى .. وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان للقرامطة جولة ودولة: كان القرامطة يتخفَّوْن - كما رأينا - في زي أهل البيت، ويزعمون أنهم يبكون على ما أصابهم، ويُظهرون التعبدَ والتمسك والتزهد، ويبشرون بالعدل الشامل بين الناس، وبسياسة جديدة في المال، تُشبع الجياعَ، وتنصر العمال والفلاحين. فاجتمع إليهم المخدوعون من البسطاء وأفجاج العرب والأكراد، وجُفاة الأعاجم، وسفهاء الأحداث، ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عددًا، ثم الحقدة ممن أزال الإسلام دولتهم، كأبناء الأكاسرة، والدهاقين، وأولاد المجوس المستطيلون، ثم المغامرون الباحثون عن دوْر العاشقون للتسلط والسيطرة. وصار لهم بهؤلاء وهؤلاء أتباع وأشياع، وجند وأنصار، أقاموا بهم دولة، واتخذوا لهم عاصمة!! فلننظر على أي نظام قامت دولتهم؟ كان أول شيء أنهم كشفوا هُويتهم، فأباحوا المحرمات، وأزالوا المحظورات، ونادْوا بالشيوعية في النساء والأموال، وبالطبع - كالشيوعية الحديثة - عجزوا عن تحقيقها في الأموال، فبقي قادتهم ورؤساؤهم يكتنزون المال دون عامتهم، ويسومونهم الخسف والعذاب، ويستغلون جهدهم وعرقهم. ثم كشفوا عن هدفهم الأول ومهم الأكبر، وهو هدم دولة الإسلام، فعاثوا في الأرض فسادًا، وشنوا الحروب في العراق والخليج والشام ومصر والحجاز، وروّعوا الآمنين، وقطعوا الطريق، ونهبوا القوافل، وذبحوا الرجال، وسبَوْا النساء والأطفال، وصار من كانوا يزعمون أنهم دعاة العدل وأئمة الزهد وحماة الضعفاء، صاروا مردة شياطين، صاروا مصدر الظلم والقهر والاستبداد والاستغلال. وكملت جرائمهم بعدوانهم على الحجيج داخل الحرم، يوم التروية ثمانية ذي الحجة، فذبحوا الحجاج وألقوا بجثثهم في بئر زمزم، ومزقوا أستار الكعبة، ونزعوا بابها وميزابها، وبلغت جريمتهم غايتها بكسر الحجر الأسود، وقلعه من مكانه، وخطفه والعودة به إلى عاصمة ملكهم، حيث ظل سنين إلى أن زالت دولتهم، وانفض المخدوعون من حولهم، الذين طمعوا في جنة الشيوعية، وما ذاقوا إلا وبالها وجحيمها.. فهل يعقلون؟؟!