خطاب مفتوح إلى الرئيس عُمر البشير
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور عبد العظيم محمود الديب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد:
سيادة الرئيس،
هذه الرسالة قدّمتُها مكتوبة منذ نحو عام ونصف وبالتحديد في 23/12/2003م إلى أخٍ كريم وزير من أبرز وزرائكم ، ثم تحدثت بمضمونها شفهياً إلى عالمٍ أديبٍ أريبٍ ، وهو من كبار مستشاريك، ولما لم أجد لها صدى أحببت أن أتقدم بها إلى فخامتكم، إبراءً للذمة، وإعذاراً إلى الله، وأداء لواجب النصح. ( لم أغير فيها شيئا إلا ألفاظ الخطاب).
سيادة الرئيس،
- قلوبنا معكم ودعاؤنا لكم، فقد رمتكم الدنيا –عربا وعجما- عن قوسٍ واحدة، وتآمر عليكم الشقيق، وخانكم الصديق، وأحاط بكم العدو، والتسابق يجري أمامكم على الانصياع والانبطاح. فماذا أنتم فاعلون!!
- لقد سقط السودان بالإسلام منذ قريب في عهد النميري، وصارت الدعوة إلى الحكم بالإسلام مضرب المثل للفوضى والانهيار والخراب، حتى صار (الآخرون) يقولون لنا: أيَّ إسلام تريدون؟ إسلام الخميني أم إسلام النميري؟ فماذا يجري الآن في السودان؟
لقد بدأ الناس يقولون: لماذا كان الدبّابون؟ أين عرس الشهيد؟ لماذا أُزهقت هذه الأرواح الطاهرة؟ ولم كان كل هذا.. و .. و ..
+أنا أعلم أن رجال السلطة رجال ثورة الإنقاذ لم يَتَلَبَّسوا من دنيا الناس هذه بشيء، ولم يرتعوا في مال الأمة كما رتع مَنْ قبلهم من الحكام، وأعلم أن بيوتهم هي هي لم تتغير، وأن معيشتهم هي هي لم تتبدّل !!!
فلماذا إذا الاستمساك بالسلطة؟
لقد جاءت ثورة الإنقاذ تحمل حُلْما ورديًّا وأملاً غاليا كانت الأمة كلها تسعى إليه، وترجو أن تحققه وتعيش في ظله.
جاءت ثورة الإنقاذ تدعو لتطبيق المشروع الإسلامي، فألقت الأمة إليها قيادها، وأعطتها أغلى ما تملك: فلذات أكبادها، وبدا للمسلمين في الداخل والخارج أن الفجر سينبثق من السودان، ورُحنا نستقبل البشائر من أخبار السودان نتنسّمها كل يوم، فكانت نجاحات وإنجازات سعدنا بها، وباهَيْنا بها، وبدا أن الفجر قريب.
+ولكن كما قال حافظ إبراهيم :
لا تلم كفي إذا السيف نبا :: صحّ مني العزم لكن الدهر أبىَ
لقد رأينا زعماء السودان المخضرمين (المهدي والمرغني) ومعهم كل ألوان الطيف السياسي في معسكر جرنج ضد ثورة الإنقاذ، ورأينا دولا عربية تدعم جَرنْج بالمال والسلاح، وكان ما كان، وأُحيط بكم وخُنق مشروعكم.
فلماذا أنتم باقون ؟؟
+كيف تكونون اليوم مع جرنج ويُستقبل بالورود والأحضان، وتَصْطَفُّون معه في (مواجهة المعارضة الشمالية) وتأخذون دورها بجوار جرنج ؟؟
ألستم من وضع الترابي في السجن، لأنه وقّع مذكرة تفاهم مع جرنج ؟
كيف أصبح ما كان يُعدّ خيانةً عظمى إنجازاً وانتصاراً ؟ ثم ما معنى تقاسم السلطة؟
ما معنى تقاسم الثروة؟
ما معنى تقرير المصير بعد ست سنوات؟
لماذا لا يكون الآن؟
كيف تتحمل ثورة الإنقاذ أن تكون هي ( القابلة ) التي تستقبل دولة الجنوب في حجرها؟
+لست متشائما، ولكن الأيام علمتنا الكثير، إن معنى هذا الاتفاق، أن تنشأ دولةٌ في الجنوب على نفقة وبجهود الشمال، بمعنى أنه في ظرف السنوات الست يتم الآتي:
- شبكة طرق واتصالات على أحدث ما يمكن بالجنوب.
- تشييد الجامعات والمدارس على أحدث ما يمكن بالجنوب.
- إقامة مباني الوزارات والإدارات على أحدث ما يمكن بالجنوب.
- إعداد الكوادر البشرية والفنية على أحدث ما يمكن بالجنوب.
ثم يأتي استفتاء تقرير المصير، فتكون دولة الجنوب المستقلة جاهزة بكل مؤسساتها بجهود أبناء الشمال.
* * *
من موقع حبي وإخلاصي لثورة الإنقاذ وتقديري لكم شخصيا أتمنى الآتي:
+أن تُعدّ وثيقة موجزة تصاغ صياغة دقيقة محكمة تتضمن بنودًا مفصلة هي:
1-ملامح مشروع ثورة الإنقاذ.
2-ماذا تم إنجازه من هذا المشروع.
3-العقبات والمعوّقات التي جعلتكم تصلون إلى طريق مسدود (العقبات من الداخل والخارج).
- يتقدم رئيس ثورة الإنقاذ إلى الشعب، بل إلى الدنيا معلناً أنه ورفاقه من اليوم سيكونون حكومة تصريف أمور فقط إلى أن يتم الاتفاق على تكوين لجنة تشرف على إجراء انتخابات حرة نزيهة لاختيار جمعية تأسيسية وحكومة منتخبة لاستلام السلطة على أن تُفتح أبواب السودان لكل المعارضين في الخارج، للعودة بكل ترحاب، وتسلّم السلطة طواعية، وبذلك تنجو ثورة الإنقاذ من السقوط، وتحمي اسمَ الإسلام الذي حكمت تحت ظله، وأسلس الناس قيادهم لها من أجله.
- سيدي الرئيس، أنت تعلم ما حاوله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وظل التاريخ وسيظل يذكره له، لقد بلغ من تقدير الناس له أن صدقوا زعم الزاعمين بأنه مات مسموماً، وذلك لتعلقهم به وحُّـِّبهم له، فلتكن ثورة الإنقاذ كذلك!! فَلتقُل : هذا ما كنا نريده كلّه، وهذا ما استطعنا تنفيذه، وهؤلاء هم الذين وقفوا في طـريقنا، وحالوا بيننا. وبذلك يظل الناس يذكرونكم أبد الدهر. أما أن تظلوا في السفينة وهي تغرق على أمل أن تهب ريح من هنا أوهناك، فسيسجل عليكم التاريخ أنكم غيّرتم، وبدّلتم، وتنازلتم، وبعْتُم في عصرٍ الكلّ فيه يبيع، والكل فيه يتسابق على الانبطاح والالتحاق.
- سيدي الرئيس، إن لم تأخذ بقولنا، وتسمع لنصحنا، فأنشدك الله أن تضع عن كاهلك قضية الحكم بالإسلام، ويكفيك ما أنت فيه!! إن تطبيق الإسلام الذي نريده – وأنت بهذا أعرف مني – هو أن نقدّم للدنيا الدولة النموذج والمثال، الدولة التي ينظر إليها الناس في العالم كله، ويقولون: متى يكون لنا مثل هذا.
وأنت – سيادة الرئيس – توافقني على أن السودان في وسط هذه الأعاصير غير قادر على صنع هذا .
- سيدي الرئيس، قد تقولون : إنكم مؤيدون من جبهة عريضة تمثل عامة الشعب، فإن كان الأمر كذلك، فهذا أدعى لأن تتركوا السلطة، وتحتكموا مع الآخرين إلى صندوق الانتخاب.
وعند ما يُعيدكم الشعب ببطاقة الانتخاب ، ستنحني لكم الرؤوس ، وتكف عنكم الألسن ، وتملكون من القوة ما يجعل للمسألة وجها آخر.
- سيدي الرئيس، كلمة أخيرة، أرجو ألا يضيق بها صدرك: إن التاريخ لا يرحم، والتاريخ – أيضا – لا يقف كثيرا عند التفاصيل، فماذا سيقول التاريخ عند ما ينظر إلى خريطة السودان الواحد الموحد سنة 1989م، والسودان الممزق المقسم الأرض الموزّع السلطة والثروة.
وأخيرا :
سيدي الرئيس، هذه كلمات من ذَوْب قلبي كتبتها، ومن عصارة نفسي سكبتها لا أبغي بها إلا وجه الله، ويعلم الله أني أقدر شخصك الكريم، وأعرف لك حقك وقدرك، ولولا حبي لك وخوفي على المنهج الذي تمثله، والراية التي تحملها ما شغلني أمرك، وما عنّيت نفسي بالكتابة إليك.
أسأل الله أن يبصرنا طريقنا وأن يهدينا رشدنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
*****
الدكتور عبد العظيم محمود الديب
الدوحه- قطر
مايو 2005
مقالات سياسية أخرى
الحرب في جنوب السودان .. هل بدأ التدويل؟!
هل يستطيع نظام الجبهة الإسلامية الحاكم في الخرطوم القضاء على الحركة الشعبية لتحرير السودان؟ هذا هو السؤال الذي بدأ يسيطر على معظم تحليلات المراقبين السياسيين الذين بدأوا في الاهتمام بما يدور في الساحة السودانية إثر أنباء عن معارك ضارية اندلعت في بداية هذا الشهر بين الفريقين بين نفيها وإثباتها، أكدت أوساط القيادة الشرعية للقوات المسلحة المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي المعارضة صحة الأنباء وقالت أنها دخلت أسبوعها الثاني.
وتؤكد هذه الأوساط أيضًا أن المعارك الحالية بدأت في أعقاب عدة دلائل من بينها الزيارة المفاجئة التي قام بها الفريق عمر البشير رئيس المجلس العسكري إلى مدينة جوبا يومي 18 19 فبراير الماضي. وكان المذكور قد أشار في خطاب له عن قرب نهاية التمرد كما يسميه، وأشار أيضًا إلى أن الحكومة ستقوم بوضع خطة لتعمير الجنوب. علمًا بأن ما جاء في خطابه هذا ظل يردده منذ العام الأول لانقلابه، وهو ما يدخل صيغة التفاؤل السابق في بند الاستهلاك السياسي.
وتستدل أوساط القيادة الشرعية أيضًا بالمعلومات العسكرية بخطة النظام والتي تشربت قبيل بدء المعارك وكشف عنها التجمع الوطني في بيان له صدر في القاهرة. وكان البيان قد حذر من خطورة تدويل المشكلة، وقال إن المعلومات المتوافرة لديه تؤكد مسعى النظام الديكتاتوري الحاكم لتحقيق هذا الغرض. وفي إطار الخطة العسكرية كشف البيان إلى أن النظام يسعى إلى تصعيد القتال انطلاقًا من خمسة محاور، الأول: الدمازين – المابان – فشلا – الناصر – كبويتا، والمحور الثاني كوستي – العباسية – رشاد – القردود. والمحور الثالث: الرنك – ملكال – بور - . والمحور الرابع: جوبا – ليريا – توريت – نمولي. والمحور الخامس: واد – طميره – يامبيو – غولي. وأشار البيان إلى ما أسماه بالخطوات الأولى للتدويل، وأكد أنه تم الاتفاق أثناء زيارة الرئيس الإيراني علي هاشمي رفسنجاني للخرطوم ديسمبر الماضي على استقدام قوات إيرانية بلغت نحو ثمانية آلاف ضابط وجندي نشروا فورًا على أطراف مدينة جوبا المحاصرة منذ عدة أشهر كذلك في المنطقة الواقعة بين مدينتي كوستي وملكال، وتبع ذلك نشر قطع من البحرية الإيرانية في البحر، وهي التي شاركت في مناورات عسكرية مع قطع سودانية وأريترية أواخر العام الماضي وبقيت منذ ذلك الوقت في المياه الإقليمية السودانية عند ميناء بورتسودان ومرفأ ترنكات.
د. عبد العظيم الديب
إلى عابد الشيخ وإلى كل الشهداء
بالرغم مما هو كائن، وبالرغم مما هو محيطٌ بنا من همّ، بل امتهان وهوان، في بورما، في البوسنة والهرسك، في ألبانيا، في سيلان ... بل في عمق ديار الإسلام، بالرغم من كل ذلك فمن حقنا أن نرفع رأسنا لحظةً، وأن نرنو إلى (كابول) مهللين مكبرين، حامدين شاكرين، من حقنا أن نستعذب طعم النصر الذي طالما حُرمناه، وأن نستروح أريج مجدٍ نسيناه، سائلين الله سبحانه أن يتم نعمته بجمع الكلمة، ووحدة الصف، وأن ينجح إخوتنا هناك في معركة السلم، كما نجحوا في معركة الجهاد، والفداء، والاستشهاد. ومن حق شهدائنا المليون أن نذكرهم اليوم، ونحن نرفع راية النصر، فالواقع أنها ما أورقت وارتفعت إلا بالدماء الطاهرة التي روّتها. رحم الله شهدائنا. رحم الله عابد الشيخ.. ذلك الشهيد الذي كتب إلينا في آخر رسالة له في الميدان قبل أن يستشهد بأيام، قائلاً بالحرف الواحد: "... الساحة تبشر بالخير، ولن يحس بآثار هذه البشارة إلا من يخرج نفسه من دائرة الماديات، ويدرك بيقين أن الله عز وجل وحده هو المتصرف بأمر هذا الكون، فينفذ أمر الله، ويتبع قوانينه وشرعه، وإن وقف العالم كله بوجهه يريد أن يثنيه عن ذلك ...". هذه من كلمات الشهيد في آخر رسالة، وحقًّا لقد قال وصدق، قال وفعل، في عصرٍ كثر فيه القائلون وقلَّ العاملون. نعم لقد خرج (عابد) من دائرة الماديات، على قوة جاذبيتها، كان شابًا في عنفوان الشباب، طموحًا منفتحًا للحياة، صاحب مواهب خارقة، تؤهله لتحقيق كل ما يصبو إليه، ذا قدرات تفتح له مغاليق الأبواب، كان بحق كفاءة نادرة، بل جملة كفاءات. كان نادرة في الذكاء والقدرات الدراسية، كان نادرًا في خلقه وصفاته، أحبه كل من عرفه من كبير وصغير، كان الشباب ينجذبون إليه ويلتفون حوله في جدهم ولهوهم، وحينما كان في عملٍ كان النجاح وكان التوفيق. لانت له الدنيا ففتحت أمامه الآفاق، الدراسات العليا (ماجستير – دكتوراه)، نال الوظيفة، ووفق للزوجة، ورزق الولد، فتحت له الحياة ذراعيها تستقبله، آملة واعدة باسمه. ولكن (أبا مصعب) لم ينخدع كما انخدعت أمةٌ بأسرها، فانخلع من دنيانا بقوة لا يملكها إلا بهبة من الله. خرج أبو مصعب من دائرة الماديات فانتصر على جاذبية الطين، وشعر بحق أن كل ما فوق التراب تراب. اتجه إلى الله صادقًا مخلصًا يطلب الشهادة، فهيأها له، وهبه إياها. كان مما قال في رسالته الأخيرة ذاتها: " ... إن حرقة القلب والروح تزداد يومًا بعد يوم، وأصبحتُ على يقين بأن المسلم لن يجد الراحة، ولا الاستقرار، إلا حينما يتغمده الله برحمته، ويدخل الجنة...". هنيئًا لك أبا مصعب !! كان هذا أملك، وعلم الله منك صدق النية، فاستجاب لك، فاهنأ بها شهادة صادقة، تحيا بها في علِّين {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}{آل عمران:169} {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}{البقرة:154} . أما نحن الذين قعدنا من ورائكم أيها المجاهدون، أيها الشهداء، فعسى الله أن يغفر لنا عجزنا وقعودنا، ويتقبل منا دعاءنا واستغفارنا وعذرنا، إنه غفور رحيم.. عبد العظيم محمود الديب واحد من القاعدين.
د. عبد العظيم الديب
إريتريا .. المأساة والتاريخ
تمهيد لابد منه:عجيب أن يظل حصار الصمت أربعة عشر عامًا كاملة.. نعم أربعة عشر عامًا من المعاناة الصامدة، وجاء الصمت الكثيف يلف الثورة الإريترية، فلم نسمع من محنة إريتريا وثورتها بوضوح إلا بعد أربعة عشر عامًا من بدئها.إريتريا المأساة والتاريخ:أربعة عشر عامًا وثلاثة ملايين مسلم يعانون التجويع والتنكيل والتشريد والإبادة بصورة تعيد إلى الأذهان محاكم التفتيش وويلاتها.وليست هذه هي المأساة، فإريتريا ليست بدعًا في ذلك، ففي كثير من أنحاء العالم يقاسي المسلمون ما يقاسيه أهل إريتريا، نعم ليست المأساة فيما يعانيه مسلموا إريتريا، فهذا قدر المسلمين، وتلك حالهم من يوم أن اصطلحت عليهم كل المذاهب، وتعاونت عليهم كل الفلسفات، حرب في كل مكان، وصراع في كل مجال، لعل أيسره مجال النار والدم، ولكن المأساة بالمحنة التي يتعرض لها إخوتنا في إريتريا والمأساة أن تظل أربعة عشر عامًا ولا تعرف، والذين يعرفون لا يقولون لأنهم إذا قالوا لا يُصدَّقون، المأسأة الحقة هي في جهل المسلمين بحقيقة ما يراد بهم أو جهل بعضهم بما يراد للبعض الآخر، واسأل معي: كم من المسلمين يحيطون بأبعاد قضية كشمير، أو شرق باكستان، أو مسلمي الهند، أو مسلمو الاتحاد السوفيتي أو المسلمين بالصين، أو بقضية قبرص أو ألبانيا أو الظبين أو مسلمي الحبشة بعامة ثم مسلمي إريتريا.نعم المأساة في هذا الجهل الصامت، أو قل في هذه المجاملة التي أصبح المسلمون يتفنون فنونها، ويروضون أنفسهم عليها عجزًا وخوفًا، فمن أجل مجاملة الامبراطور العجوز هيلاسي ضرب الحجر اللعين على أخبار الثورة الإريترية، نعم من أجل (أسد يهودا) سليل الأسر السليمانية، قام حاجز الصمت الكئيب حول المحنة الإريترية، ولولا أن سقط القناع عن وجه الإمبراطور لما أتيح لنا أن نعرف شيئًا من أخبار إريتريا.وقد لا يغن التعليق على المأساة كثيرًا، فلندع مأساة الصمت أو مأساة التجهيل، ولنتكلم عن مأساة إريتريا، ولنحاول أن نحيط بأبعادها التاريخية وأهدافها الاستراتيجية.وربما كان من المناسب ونحن نتحدث عن إريتريا أن نلم سريعًا بكلمة عن الحبشة صانعة المأساة.الحبشة:ولو سألت أي مثقف أو أي متعلم: ماذا تعرف عن الحبشة؟ لكان جواب معظمهم هي أقدم الدول المسيحية في إفريقيا وأعرقها، وهي جامعة المسيحية في إفريقيا، وهي أقدم الدول المستقلة في إفريقيا، وهي راعية منظمة الوحدة الإفريقية، وصاحبة فكرتها. هذا ما يعرفه عامة المثقفين والمتعلمين عن الحبشة، ولكن أين الحقيقة؟لا نعرف مثلاً أن الحبشة أخضعت مدة ممالك إسلامية وضمتها إلى أملاكها بالقوة، وأن نسبة المسلمين فيها تصل إلى نحو 75%، وأن الحبشة ضالعة مع كل القوى الاستعمارية العالمية والمحلية، وأن علاقتها بمنظمة الوحدة الإفريقية كانت محاولة من الإمبراطور لاحتواء المنظمة وفرض سيطرته عليها(1).إريتريـــــــــا:كلمة إريتريا نسبة إلى بحر (إريتريا)، وهي التسمية اليونانية للبحر الأحمر، وكلمة (أرتوس) باليونانية معناها الأحمر. وتمثل إريتريا شكلاً مثلثًا تقريبًا مساحته 125000كم مربع، ضلعه شاطئ البحر الأحمر بطول 1000كم، ورأسه السودان الفرنسي، وقاعدته الحدود السودانية الإريترية عند اتصاله بمديرية كسلا، وضلعه الآخر الحدود الإريترية الأثيوبية، فإريتريا في الواقع تمثل شريطًا على ساحل البحر الأحمر بطول ألف كيلومتر تبدأ من باب المندب جنوبًا.ومن أهم مدن إريتريا ميناء (مصوع) – ومعناه مكان النداء – وقد اشتقت هذه التسمية من فعل (صوع) بلغة النيجري – أي نادى – وذلك لأن الواقف على الشاطئ يمكن أن ينادي الواقف في الجزين الموازية.وعاصمتها (أسمرا) وجوها جميل معتدل، جاف، يميل إلى البرودة طوال السنة نظرًا لارتفاعها عن سطح البحر، ومبانيها منسقة وجميلة ومعنى اسمها: الغابة المزهرة، لنضرتها وكثرة زهورها.عصب: أما عصب فمن المواني الهامة، وترجع أهميتها إلى قربها من عدن والجزيرة العربية.أما مدينة كبرين فقد كانت حصنًا مصريًا قديمًا ترتفع فوق سطح البحر 1400 متر.ثروة إريتريا: إريتريا بلد غني من الناحية الزراعية، تزرع الحمضيات والفواكه بأنواعها، وكذلك القمح والشعير، والقطن والسمسم، والفول السوداني، وشتى أنواع الحبوب، بالإضافة إلى غاباتها المنتشرة التي يستفاد من أخشابها، وكذلك نباتات ألياف الجبال.أما الثروة الحيوانية فإريتريا غنية بها خاصة الإبل والبقر والماعز والضأن، كما تمتلك ثروة سمكية ومستخرجات البحري الأخرى.أما المعادن فيوجد بإريتريا الحديد والذهب والرصاص والنيكل، والملح المعدني، والاسبستوس، وأما النحاس فقد تولت استخراجه وتصديره شركة يابانية أثيوبية، وبدأت تصديره فعلاً.أما البترول فقد تم اكتشافه أخيرًا، وهناك شواهد بترولية كثيرة تبشر بالخير في هذا المجال.وإريتريا إقليم من الأقاليم الإسلامية التي كانت منبثة في شرق إفريقيا، وقد دخلها الإسلام من عصر الخلفاء عن طريق الدعوة والموعظة الحسنة، رغم ما تعرض له الدعاة من القتل والتعذيب، ورغم محاولة الأحباش الانقضاض على سواحل الجزيرة العربية، مما اضطر الأمويين في سنة 83ه إلى وضع أيديهم على جزائر (دهلك) في مواجهة شواطئ إريتريا حماية للمسلمين بها وبالساحل الشرقي الإفريقي، وتأمينًا للدعاة، ولما استتب الأمن تتابع دخول الإفريقيين في دين الله، وحيث حل الإسلام كان الإخلاء وكانت المحبة، فتزاوج مسلمو ساحل البحر الأحمر مع مسلمي الجزيرة، وصارت اللغة العربية هي لغة إريتريا، واستمرت مرتبطة بالدولة الإسلامية منذ سنة 83ه – أي أكثر من 1300 سنة.جاء في كتاب المنريزي (الإلمام بمن في الحبشة من ملوك الإسلام): إن منطقة (ياضع) – مصنوع حاليًا – كانت نابعة لولاية الحجاز، وظلت هكذا تتبع والي الحجاز حتى تمزقت الدولة العباسية على يد الشعوبيين ثم التتار.وهبت على هذا الساحل الإفريقي المسلم رياح الأحداث، وتكونت مملكة (الفرنج) الإسلامية التي اتخذت (سنار) عاصمة لها، وضمت معظم إقليم النيل الأزرق، ومناطق ساحل البحر الأحمر من (سواكن، فصوع، فعصب، فتاجورة، فيجبوتي، فبريرة)، فراس صافون) وتم لها ذلك في سنة 1504م، أي في مطلع القرن السادس عشر(1).ومرت سنون أصاب مملكة النونج ما يصيب الدول من الشيخوخة والضعف، فتوزعتها الأطماع، وكان الغرب المستعمر قد بدأ يتجه نحو إفريقية منذ أواخر القرن الثامن عشر عندما زار الرحالون مناطق السودان، وعندما تأسست الجمعية الإفريقية في لندن سنة 1788م. وبدأت انجلترا وفرنسا وإيطاليا تتحفز لالتهاب هذا الموقع الاستراتيجي الخطير. وشاء القدر أن يقدم محمد علي باسم الدولة العلية دولة الخلاف العثمانية لحماية هذه المناطق المسلمة من مواضع الاستعمار التي بدأت تعمل في أوصال القارت الأربعة تقطيعًا وتمزيقًا.وكانت حلقات مريرة من الصراع بين (مصر) ممثلة للدولة العلية وبين الدول الاستعمارية التي لجأت إلى الإيقاع بين دولة الخلافة ومصر كي ينقل إدارة هذه الأجزاء من مصر إلى والي جدة حتى يسهل على الاستعماريين التهامها بالاتفاقيات أو الشراء أو التأجير، كما كان شائعًا في ذلك الوقت، ولكن مصر وقفت لهم بالمرصاد صامدة، ونجحت في إقناع الخليفة العثماني بالتنازل نهائيًا عن إدارة هذه المناطق وضمها إلى مصر، وبهذا صارت هذه المناطق جزءًا من السودان الذي تولت مصر إدارة نيابة من الخلافة العثمانية.وفي سنة 1877م اضطرت انجلترا إلى عقد معاهدة مع مصر وضحت حدود السودان، وبمقتضى هذه المعاهدة وضعت خرائط رسمية معترف بها دوليًّا، وتبين أن (مصوع ومصب وجيبوتي وزيلع وهرر وبربرة ورأس صافون) كلها من السودان، أي من أملاك الدولة العثمانية(1).ومع ذلك لم ييئس الاستعمار واستمرت مؤامراته، فتقدمت انجلترا لرأس القارة ومدخلها (إلى مصر) ومارست دسائسها حتى أوقعتها في الديون، وبالتالي الاضطراب، ثم الثورة العرابية، ثم الاحتلال.وعندما تراخت قبضة مصر عن جنوبها وعن السودان بدأت الدول الاستعمارية تتوثب لتحقيق أطماعها القديمة في ساحل إفريقية الشرقي، فاحتلت إيطاليا (بيلول) في شمال خليج مصب، وقامت بالاستيلاء على المنطقة الساحلية قرب (مصوع) ومدت سيطرتها على باقي الأجزاء التي سموها فيما بعد باسم (إريتريا)، ووقَّع إمبراطور الحبشة معاهدة مع إيطاليا يقر ملكيتها لإريتريا، وأثناء ثورة المهدي بالسودان أرادت انجلترا أن تدعم علاقتها مع الحبشة على حساب السودان، فسمحت (لمنلبك) والي الحبشة بالاستيلاء على (هرر) وانتزاعها من الأملاك السودانية، ونجح هذا الملك في خطته وقتل ملك هذه المدينة المسلم سنة 1887م، ثم أرسل برقية إلى القائد الإنجليزي في عدن يفتخر فيها بقتل الأمير عبد الله حاكم (هرر)(2).وهكذا تم بتر هذا الجزء الساحلي من السودان، أي من أملاك الدولة العلية، دولة الخلافة، وتوزعته الحبشة وإيطاليا بالتآمر مع انجلترا.ومنذ مطلع القرن العشرين أخذت دولة الخلافة في الضعف والتدهور، وأخذ الاستعمار يلتهمها إقليمًا وراء إقليم: الجزائر وتونس وليبيا وسوريا لفرنسا، ومصر والسودان والعراق وفلسطين والأردن لانجلترا، وليبيا والصومال وإريتريا لإيطاليا، وشغل كل إقليم بنفسه وبمأساته.وفي أثناء الحرب العالمية الثانية سنة 1941م احتلت انجلترا (إريتريا) باسم قوات الحلفاء ضد دول المحور، وخضعت إريتريا للإدارة البريطانية التي دامت إحدى عشرة سنة ونصف سنة، إلى أن صدر قرار الأمم المتحدة في 2 ديسمبر سنة 1950م بفرض الاتحاد الفيدرالي بين إريتريا وبين أثيوبيا، وأصبح هذا القرار نافذًا من 15 سبتمبر 1952م، فأصبحت إريتريا دولة مستقلة تحت لواء التاج الأثيوبي.دور أمريكا في قرار الأمم المتحدة:بدأت خيوط المؤامرة الأمريكية الأثيوبية بخطوة غزل ذكي من جانب أثيوبيا، حيث قدم الإمبراطور هيلاسي رشوة صغيرة، فقد أهدى للسفارة الأمريكية قطعة أرض بجوار القصر الإمبراطوري في أثيوبيا، وقال: إنها عرفان مساعدة أمريكا والرئيس روزفلت لأثيوبيا في سبيل الحرية (كذا) في تلك الفترة كانت إريتريا تحت الإدارة البريطانية – كما قدمنا – بتكليف من المكتب الخارجي للمناطق الإفريقية.كانت إريتريا في ذلك الوقت مطمعًا لكل من فرنسا التي تريد توسيع مستعمرتها في الصومال الفرنسي، ولإنجلترا التي تريد ضمها إلى السودان الإنجليزي آنذاك مع ترك جزء للحبشة، وكانت أمريكا تحكم أيضًا أن يكون لها مكان في المنطقة وهي التي لم يكن دخلت ميدان الاستعمار بعد.وأما أثيوبيا فقد كانت تشعر بأنها أضعف الطامعين في إريتريا وأكثرهم شراهة في نفس الوقت، فتنتق ذهن الإمبراطور العجوز عن حيلة خبيثة تعوضه عن ضعفه، إذ ربط أثيوبيا بعجلة أمريكا، وعرض على أمريكا مشروعًا مؤداه أن يكون الملك والسيطرة على إريتريا لأثيوبيا، والانتفاع لأمريكا أو لهما معًا.ولما لم يكن لأمريكا مجرد شبهة أو وجهة نظر تتعلل لها لدخول إريتريا وجدت أن في خبث الإمبراطور وتدبيره ما يحقق لها ما تتمنى، فأخذت وجهة نظر الحبشة، وتبنت رأيها.وجاء إلى الحبشة أفويل هاريمان مبعوثًا من الخارجية الأمريكية سنة 1942م، وبحث ما يمكن أن تقدمه الحبشة إلى أمريكا إذا تم لها الاستيلاء على إريتريا، حتى يطمئن أولاً على ثمن الصفقة، وعلى الفور وافقت الحبشة على منح تسهيلات عسكرية في (أسمرا) لإنشاء مركز اتصالات واستخبارات.وفي مؤتمر الصلح سنة 1947م تقرر تشكيل لجان للبحث في شأن المستعمرات الإيطالية ومن بينها إريتريا، وبدأت اللجنة الأمريكية السوفيتية الإنجليزية الفرنسية زيارتها لإريتريا، وبالرغم من أنها شاهدت تلهف الشعب على الاستقلال والتقت بالزعماء الذين حملوا مطالب شعب إريتريا في التحرر والاستقلال التام، إلا أنها لم تتفق على رأي.وتنفيذًا لاتفاقية الصلح أحيل الموضوع إلى الأمم المتحدة في 15/9/1948م، وبدأت المناورات والمؤامرات في أروقة الأمم المتحدة، وتوالت لجان الدراسة والوفود والزيارات، ولما كانت النية مبيتة فقد عموا وصموا عما رأوا وسمعوا، وقدمت أمريكا مشروعها الذي قضي بإنشاء (اتحاد فدرالي) بين إريتريا وأثيوبيا للشعب الإريتري فيه أقصى درجة من الحكم الذاتي، ويشارك الإريتريون في حكومة اتحاد مشتركة (وهذا المشروع – كما أشرنا – يمكن للولايات المتحدة أن تؤمِّن مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة دون حاجة إلى احتلال مباشر).وكانت المواد التي تشير إلى استقلال إريتريا الذاتي والمشاركة في حكم اتحادي ...إلخ، مجرد بنود شكلية اتفق الطرفان: أمريكا وأثيوبيا على وضعها في النصف، حتى يخطر المشروع بموافقة الأمم المتحدة، ثم تتكفل حكومة أثيوبيا بإلغائها تدريجيًا وتنزع من إريتريا أية صبغة استقلالية كما حدث بالفعل.وانظر هنا نتائج وآثار التواطؤ الأمريكي الأثيوبي:في 2/12/1950م أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتحاد الفدرالي بقرارها رقم 390 بأغلبية 46 صوتًا ومعارضة كل قوى السلم والحرية.في 7/9/1951م (أي بعد أقل من مضي سنة) وقّع الجانبان الأثيوبي والأمريكي معاهدة لمنح أمريكا تسهيلات تجارية وعسكرية وبحرية في الأرض الإريترية، وذلك قبل إنشاء الحكومة الإريترية التي نصَّ قرار الأمم المتحدة على تشكيلها.في 22/5/1953م قام الإمبراطور هيلاسي بزيارة شكر للولايات المتحدة، وفي هذه الزيارة وقّع الطرفان الأثيوبي والأمريكي على اتفاقية خاصة تتمكن أمريكا بمقتضاها من أن تقيم في (أسمرا) - عاصمة إريتريا – أضخم قاعدة عسكرية للاستخبارات في إفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا طبعًا بالإضافة إلى الامتيازات والتسهيلات العسكرية للجيوش الأمريكية التي ليس لها مثيل إلا في الأراضي المستعمرة.قرار الأمم المتحدة وموقف أثيوبيا منه:من أعجب العجب أن تصدر الأمم المتحدة قرارها هذا بالاتحاد الفدرالي من غير حق، ولا مجرد شبهة في حق، فليس هناك أي رابطة بين أثيوبيا وإريتريا من أي لون أو نوع من الروابط، بل هو كما قدمنا ثمرة تواطؤ أثيوبي أمريكي.ومن العجيب الأعجب أن يأتي في ديباجة القرار: (إن الهدف الرئيسي من إصداره هو إعطاء أثيوبيا بحر إلى البحر) هكذا... تعترف الأمم المتحدة بأن هدف القرار وضع شعب بأكمله وأرضه تحت سيطرة دولة أخرى، كي تجد لها منفذًا على البحر.سيظل هذا القرار شاهدًا على طور من أطوار المنظمة الدولية كانت فيه واقعة تحت تأثير القوى الاستعمارية الكبرى. وإذا جاز هذا المنطق فلتعد كل دولة ذات نفوذ ما تحتاجه من أراضي الدول الأخرى.إن قرار الأمم المتحدة رقم (290/أ) الخاص بالاتحاد الفدرالي بين إريتريا وأثيوبيا ينص على أن إريتريا تتمتع بحكم ذاتي على أساس المبادئ الديمقراطية، وما يتبع ذلك من وجود دستور وبرلمان وحكومة منتخبة، لضمان حقوق الإنسان والحوريات الأساسية، كما أن للإريتريين حق الاشتراك في حكومة الاتحاد على أسس ومعايير تضمن القرار تحديدًا لها، إذ ينص القرار على أن يكون للحكومة الإريترية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في حقل الشئون الداخلية (المادة الثانية)، وعلى أن يتكون (المجلس الإمبراطوري الاتحادي) من عددين متساويين من الممثلين الأثيوبيين والإريتريين، ويشترك مواطنو إريتريا في الجانبين التنفيذي والقضائي لحكومة الاتحاد، ويمثلون الجانب التشريعي وفقًا لأحكام القانون وبنسبة عدد سكان إريتريا إلى عدد سكان الاتحاد (المادة الخامسة).وحتى هذا القرار الحائر وهذا الاتحاد الفدرالي الظالم لم يكف أثيوبيا، فأخذت طريقها إلى مسح قرار الأمم المتحدة وطمس معالم إريتريا تمامًا، وضمها إلى أثيوبيا، وبدأت خطواتها في ذلك الطريق مبكرًا في 15/9/1952م:تعرضت إريتريا لنظام ضرائبي جائر يهدف إلى خنق الحياة الاقتصادية وتحطيم الاقتصاد الإريتري.وأجبرت كبريات المؤسسات الاقتصادية على الانتقال إلى أديس أبابا، واضطرت القوى العاملة إلى الهجرة إلى السودان والسعودية.وحظرت نشاط الأحزاب السياسية.وحلت اتحاد العمال.وملأت السجون بالمعتقلين.وصادرت جميع الصحف المحلية.وألغت تدريس اللغات التجريبية والعربية في إريتريا، متجاهلة نص المادة الثامنة من الدستور الإريتري، تلك المادة التي وضعها خبراء الأمم المتحدة نزولاً على رغبة الجماهير الإريتريا، وخضوعًا لإصرارها.وفي 14/9/1958م أمر الإمبراطور بإنزال العلم الإريتري باعتباره رمزًا من رموز السيادة والشخصية الوطنية في إريتريا.واستمر الحكم الأثيوبي يلغي بالتدريج كل مظاهر الكيان الإريتري، ويفرض سيطرته على المؤسسات الدستورية، واستمر يتحدى مشاعر الشعب الإريتري وعقيدته.ففي أغطسس سنة 1960م صدر قرار بإلغاء المحاكم الشرعية، ليحاكم المسلمون أمام المحاكم الحبشية حتى في الشئون والأحوال الشخصية.كما صدر قرار بتعديل أحكام الميراث الشرعية وتغيير الأنصبة، كما نصَّ عليها الدين.كما صدر قرار بتغيير قوانين الأحوال الشخصية، فأعطيت المرأة حق خلافة زوجها، ومنع تعدد الزوجات، وحكم باقتسام أملاك الزوج والزوجة مناصفة في حالة الطلاق.وأخيرًا في 14/11/1962م أعلن الإمبراطور إلغاؤه لقرار الأمم المتحدة بإرادته المنفردة، وأعلن اعتبار إريتريا مقاطعة من مقاطعات أثيوبيا، فألغى الدستور كلية، وحل البرلمان، وجاء من أثيوبيا حاكم عسكري عام ليحل محل رئيس السلطة التنفيذية المنتخب، وتحول القضاء الإريتري إلى جهاز من أجهزة القمع الأثيوبية..كفاح الشعب الإريتري:وأمام هذا التواطؤ الأثيوبي الأمريكي الذي سخر بالأمم المتحدة لإصدارها قرارها، وإزاء هذا الاستبداد الذي لم يكفه قرار الأمم المتحدة الجائر وفعل به ما فعل، إزاء هذا كيف كان موقف شعب إريتريا؟؟لم يستكن الشعب الإريتري ولم يغفل عما يدير له، فقد بدأ يستعد ويتحفز ضد الحكم الإيطالي، فقامت الجمعيات الشعبية ثم تحولت إلى أحزاب سياسية عقب الحرب العالمية الثانية، ثم تابعت مناقشة القضية أمام الأمم المتحدة، وقد تكونت الكتلة الاستقلالية ردًّا على مشروع التقسيم الذي قدم إلى الأمم المتحدة من وزير خارجية بريطانيا وإيطاليا، ثم على مشروع الاتحاد الفيدرالي.وأخيرًا أعلنت الثورة المسلحة بعد ما فشلت جميع المحاولات السياسية والسلمية، فانطلقت شرارة الثورة الإريترية في اليوم الأول من سبتمبر سنة 1961م، وظلت الثورة تناضل وتجاهد في ظل أقسى الظروف وأبشعها، فقد استخدم الإمبراطور وسائل القمع والإرهاب لا تجوز في شرعة ولا قانون.ولقد شاءت الظروف أن أعيش عامين قريبًا من الحدود السودانية الإريترية، وسمعتُ بأذني من شهود عيان أن أجهزة القمع الأثيوبية كانت تدخل القرية الإريترية بعد إطلاق النار على أهلها فتسقط منهم من يسقط ويفر من يفر، ويؤسر من يؤسر، ثم تحرق القرية بعد استباحتها للجنود الأثيوبيين، ثم يقتل الأسرى، ويمثل بالجثث، فتقطع إربًا إربًا، ثم توضع في عربات النقل لترمى على قرى المنطقة لكل بيت عضو، إرهابًا وتحديًا وإنذارًا لكل من تحدثه نفسه بأن ينضم إلى الثورة بأنه سيلقى مثل هذا المصير.ومع ذلك صمد الشعب الثائر، وحققت ثورته نتائج، فثلج صدر كل الأحرار والأطهار.حررت الثورة ثلثي الريف الإريتري.دارت المعارك المسلحة في قلب المدن الإريترية أسمرا وعصب.استولى الثوار على كثير من معدات الجيش الأثيوبي الذي كانت وحداته تفر أمامهم كالخراف.وصل الكفاح إلى داخل أثيوبيا، فقد تعاطف مع الثوار جماهير من أجزاء أثيوبيا ومن جموع الطلاب والعمال وغيرها.فضحت الثورة التواطؤ الأثيوبي الاستعماري بعامة، والأثيوبي الأمريكي بخاصة.يبلغ من شمول الثورة وانتشارها أن اعترف بها الخصوم والأعداء الطبيعيون. قال تشارلز جلاس مراسل شيفاجو ديلي نيوز: إنه لمس بنفسه حماسًا بين الشعب الإريتري لقواتهن وان ما تواجهه أثيوبيا هناك هو ثورة شعبية (الأهرام 13/3/1970م).وما زالت هذه الثورة التحررية تجابه قوى عظمى شرقية شيوعية تقف وراء أثيوبيا وتدعمها واستعمارية غربية تضيء للشيوعية النور الأخضر لتتقدم لسحق الثورة الإريترية الإسلامية.أليست الثورة الإريترية ثورة إسلامية، وعندما يتعلق الأمر بالإسلام فإن الشيوعية والرأسمالية تتعاونان وتنسيان ما بينهما تمامًا، فإن الإسلام في نظرها – وهذا حق – العدو الأخطر للشيوعية الملحدة وللرأسمالية الاستعمارية الحاقدة في نفس الوقت.إسرائيل في إريتريا:لقد جمع أثيوبيا وأمريكا هدف واحد ثم جمع إسرائيل نفس الهدف، فقد رأى الإمبراطور الداهية أن لإسرائيل مصالح في البحر الأحمر، وأنها يهمها إخضاع هذا الساحل الذي يمتد نحو 1000 كم لأثيوبيا، وإلا فسيصير البحر الأحمر عربيًا تمامًا، وأن على إسرائيل أن تشارك في إخضاع إريتريا، وأن تؤدي دورها في هذه المهمة، ورحبت إسرائيل محققة بذلك عدة أهداف:من الناحية الإستراتيجية العسكرية تؤمن مسافة طويلة من شاطئ البحر الأحمر، أو قل تكسر حلقة من حلقات الحصار العربي في البحر الأحمر.ومن الناحية الاقتصادية – وهذا جانب هام جدًّا – عملت إسرائيل على نهب ثروات إريتريا وشرق السودان، حيث أن قبائل (الهدتدرة) و(بني عامر) و(الأمراء) قبائل سودانية إريتريا تعيش بين إريتريا وشرق السودان، وكل ما في أيدي هذه القبائل ينساب إلى نهر التجارة الأثيوبية الإسرائيلية.جاء في نشرة خاصة أصدرتها الحكومة الأثيوبية واسمها (الزراعة والصناعة والتجارة) في الحبشة الصادرة في يونيو 1957م: بدأت شركة (أنكودي الإسرائيلية) الضخمة أعمالها في أثيوبيا سنة 1955م، وهي أكبر شركة لتعبئة اللحوم في الإمبراطورية الأثيوبية، فلها من الآلات الميكانيكية ما يمكنها من إنتاج 250,000 علبة يوميًا من اللحم السعبأ بالإضافة إلى 300 طن من اللحم المثلج، و3500 من الجلود المدبوغة شهريًا، وللشركة مصانع لتحويل فضلات اللحوم والعظام والشحم إلى مواد أخرى نافعة.. وتنتج 100 طن سماد عضوي شهريًّا من هذه المخلفات، كما تنتج طنًّا ونصفًا من قطع اللحوم التي تزن الواحدة منها اثنين كيلوجرام للاستهلاك اليومي، وتعتبر مصانع شركة (أنكودي) من المصانع العالمية للحوم، ويذبح مصنع (أنكودي) في أسمرا – عاصمة إريتريا – يوميًا 360 بقرة يشتريها بأبخس الأثمان، ولها في أسمرا مصنع كبير لدباغة الجلود. وتصدر (أنكودي) إلى إسرائيل 5000 طن سنويًا من الأسماك المطحونة التي تستخدم لتسميد الأرض، ويزداد إنشاء الشركات الإسرائيلية في إريتريا، وقد أعطيت مناطق إريترية كمقاطعات لشركات إسرائيلية تستغلها كيف تشاء، ومن ذلك منطقة (عايلت) وهي تابعة لمديرية مصوع.ولا يقف التعاون الأثيوبي الإسرائيلي عند هذا الجانب، فقد عينت الحكومة الأثيوبية اليهودي الإسرائيلي (ناتان مادين) مستشارًا قانونيًا وهو أيضًا النائب العام المختص بوضع قوانين الدولة، وتستعين أثيوبيا بمدرسين من إسرائيل، وخبراء إسرائيل في التخطيط والزراعة والسدود تموج بهم أثيوبيا دائمًا.وفي مناقشات الكونجرس السرية ما يشهد بدور إسرائيل في محاولة جمع ثورة إريتريا، فقد جاء على لسان أحد الأعضاء ردًّا على (قولبرايت) حين سأل: إلى أي مدى شاركت أمريكا وإسرائيل في برنامج مقاومة التمرد؟ قال العضو ردًّا على هذا السؤال: كان ذلك مبادرة إسرائيلية، فالإسرائيليون يعلقون أهمية خاصة على علاقتهم بأثيوبيا حيث تمثل الدولة الصديقة الوحيدة على الجانب العربي من البحر الأحمر وعليه فالبرنامج اتخذ كبادرة إسرائيلية.عروبة إريتريا:إن عروبة إريتريا ليست محل نقاش أو نظر، ولسنا – العرب – الذين نقول بذلك، بل إن أهل إريتريا ينادون به ويفخرون، والواقع – قبل كل شيء – يقول بذلك، فنظرة إلى الخريطة نرى موقع إريتريا ينطق بعروبتها، فهي على ساحل البحر الأحمر بين الصومال العربي والسودان، وحين تقدموا بمذكرتهم إلى جامعة الدول العربية كانوا يعبرون أصدق تعبير بقولهم: "إن إريتريا هي فلسطين البحر الأحمر، وإن قوى الطغيان والشر تتربص بإريتريا لا من حيث كونها دولة تطالب باستقلالها، ولكن لأنها قبل كل شيء امتداد للوطن العربي وعمق استراتيجي ظهير لنضال العرب وصراعهم التاريخي.والآن: ما موقف القوى المحبة للسلام والمناصرة للعدل؟ وقبل ذلك: ما موقف الأمم المتحدة؟ ولماذا لا تتدخل؟ مع أن الفقرة (201) من التقرير النهائي لمندوب الأمم المتحدة تقول بالحرف الواحد: " إذا نقض القرار الفدرالي فإن القضية الإريترية يمكن أن تصبح عندئذ من اختصاص الجمعية العامة للأمم المتحدة).فلم لا تتدخل الأمم المتحدة الآن؟ إنقاذًا لهذه الملايين من الفتك والتنكيل.ومع كل ذلك وبعد كل ذلك: ألست معي أيها القارئ العزيز أن المأساة في حجمها الأكبر مأساة صمتنا الجاهل بما يجري لنا، أو جهلنا الصامت بما يراد لنا؟!