إريتريا .. المأساة والتاريخ
تمهيد لابد منه:
عجيب أن يظل حصار الصمت أربعة عشر عامًا كاملة.. نعم أربعة عشر عامًا من المعاناة الصامدة، وجاء الصمت الكثيف يلف الثورة الإريترية، فلم نسمع من محنة إريتريا وثورتها بوضوح إلا بعد أربعة عشر عامًا من بدئها.
إريتريا المأساة والتاريخ:
أربعة عشر عامًا وثلاثة ملايين مسلم يعانون التجويع والتنكيل والتشريد والإبادة بصورة تعيد إلى الأذهان محاكم التفتيش وويلاتها.
وليست هذه هي المأساة، فإريتريا ليست بدعًا في ذلك، ففي كثير من أنحاء العالم يقاسي المسلمون ما يقاسيه أهل إريتريا، نعم ليست المأساة فيما يعانيه مسلموا إريتريا، فهذا قدر المسلمين، وتلك حالهم من يوم أن اصطلحت عليهم كل المذاهب، وتعاونت عليهم كل الفلسفات، حرب في كل مكان، وصراع في كل مجال، لعل أيسره مجال النار والدم، ولكن المأساة بالمحنة التي يتعرض لها إخوتنا في إريتريا والمأساة أن تظل أربعة عشر عامًا ولا تعرف، والذين يعرفون لا يقولون لأنهم إذا قالوا لا يُصدَّقون، المأسأة الحقة هي في جهل المسلمين بحقيقة ما يراد بهم أو جهل بعضهم بما يراد للبعض الآخر، واسأل معي: كم من المسلمين يحيطون بأبعاد قضية كشمير، أو شرق باكستان، أو مسلمي الهند، أو مسلمو الاتحاد السوفيتي أو المسلمين بالصين، أو بقضية قبرص أو ألبانيا أو الظبين أو مسلمي الحبشة بعامة ثم مسلمي إريتريا.
نعم المأساة في هذا الجهل الصامت، أو قل في هذه المجاملة التي أصبح المسلمون يتفنون فنونها، ويروضون أنفسهم عليها عجزًا وخوفًا، فمن أجل مجاملة الامبراطور العجوز هيلاسي ضرب الحجر اللعين على أخبار الثورة الإريترية، نعم من أجل (أسد يهودا) سليل الأسر السليمانية، قام حاجز الصمت الكئيب حول المحنة الإريترية، ولولا أن سقط القناع عن وجه الإمبراطور لما أتيح لنا أن نعرف شيئًا من أخبار إريتريا.
وقد لا يغن التعليق على المأساة كثيرًا، فلندع مأساة الصمت أو مأساة التجهيل، ولنتكلم عن مأساة إريتريا، ولنحاول أن نحيط بأبعادها التاريخية وأهدافها الاستراتيجية.
وربما كان من المناسب ونحن نتحدث عن إريتريا أن نلم سريعًا بكلمة عن الحبشة صانعة المأساة.
الحبشة:
ولو سألت أي مثقف أو أي متعلم: ماذا تعرف عن الحبشة؟ لكان جواب معظمهم هي أقدم الدول المسيحية في إفريقيا وأعرقها، وهي جامعة المسيحية في إفريقيا، وهي أقدم الدول المستقلة في إفريقيا، وهي راعية منظمة الوحدة الإفريقية، وصاحبة فكرتها. هذا ما يعرفه عامة المثقفين والمتعلمين عن الحبشة، ولكن أين الحقيقة؟
لا نعرف مثلاً أن الحبشة أخضعت مدة ممالك إسلامية وضمتها إلى أملاكها بالقوة، وأن نسبة المسلمين فيها تصل إلى نحو 75%، وأن الحبشة ضالعة مع كل القوى الاستعمارية العالمية والمحلية، وأن علاقتها بمنظمة الوحدة الإفريقية كانت محاولة من الإمبراطور لاحتواء المنظمة وفرض سيطرته عليها(1).
إريتريـــــــــا:
كلمة إريتريا نسبة إلى بحر (إريتريا)، وهي التسمية اليونانية للبحر الأحمر، وكلمة (أرتوس) باليونانية معناها الأحمر.
وتمثل إريتريا شكلاً مثلثًا تقريبًا مساحته 125000كم مربع، ضلعه شاطئ البحر الأحمر بطول 1000كم، ورأسه السودان الفرنسي، وقاعدته الحدود السودانية الإريترية عند اتصاله بمديرية كسلا، وضلعه الآخر الحدود الإريترية الأثيوبية، فإريتريا في الواقع تمثل شريطًا على ساحل البحر الأحمر بطول ألف كيلومتر تبدأ من باب المندب جنوبًا.
ومن أهم مدن إريتريا ميناء (مصوع) – ومعناه مكان النداء – وقد اشتقت هذه التسمية من فعل (صوع) بلغة النيجري – أي نادى – وذلك لأن الواقف على الشاطئ يمكن أن ينادي الواقف في الجزين الموازية.
وعاصمتها (أسمرا) وجوها جميل معتدل، جاف، يميل إلى البرودة طوال السنة نظرًا لارتفاعها عن سطح البحر، ومبانيها منسقة وجميلة ومعنى اسمها: الغابة المزهرة، لنضرتها وكثرة زهورها.
عصب: أما عصب فمن المواني الهامة، وترجع أهميتها إلى قربها من عدن والجزيرة العربية.
أما مدينة كبرين فقد كانت حصنًا مصريًا قديمًا ترتفع فوق سطح البحر 1400 متر.
ثروة إريتريا: إريتريا بلد غني من الناحية الزراعية، تزرع الحمضيات والفواكه بأنواعها، وكذلك القمح والشعير، والقطن والسمسم، والفول السوداني، وشتى أنواع الحبوب، بالإضافة إلى غاباتها المنتشرة التي يستفاد من أخشابها، وكذلك نباتات ألياف الجبال.
أما الثروة الحيوانية فإريتريا غنية بها خاصة الإبل والبقر والماعز والضأن، كما تمتلك ثروة سمكية ومستخرجات البحري الأخرى.
أما المعادن فيوجد بإريتريا الحديد والذهب والرصاص والنيكل، والملح المعدني، والاسبستوس، وأما النحاس فقد تولت استخراجه وتصديره شركة يابانية أثيوبية، وبدأت تصديره فعلاً.
أما البترول فقد تم اكتشافه أخيرًا، وهناك شواهد بترولية كثيرة تبشر بالخير في هذا المجال.
وإريتريا إقليم من الأقاليم الإسلامية التي كانت منبثة في شرق إفريقيا، وقد دخلها الإسلام من عصر الخلفاء عن طريق الدعوة والموعظة الحسنة، رغم ما تعرض له الدعاة من القتل والتعذيب، ورغم محاولة الأحباش الانقضاض على سواحل الجزيرة العربية، مما اضطر الأمويين في سنة 83ه إلى وضع أيديهم على جزائر (دهلك) في مواجهة شواطئ إريتريا حماية للمسلمين بها وبالساحل الشرقي الإفريقي، وتأمينًا للدعاة، ولما استتب الأمن تتابع دخول الإفريقيين في دين الله، وحيث حل الإسلام كان الإخلاء وكانت المحبة، فتزاوج مسلمو ساحل البحر الأحمر مع مسلمي الجزيرة، وصارت اللغة العربية هي لغة إريتريا، واستمرت مرتبطة بالدولة الإسلامية منذ سنة 83ه – أي أكثر من 1300 سنة.
جاء في كتاب المنريزي (الإلمام بمن في الحبشة من ملوك الإسلام): إن منطقة (ياضع) – مصنوع حاليًا – كانت نابعة لولاية الحجاز، وظلت هكذا تتبع والي الحجاز حتى تمزقت الدولة العباسية على يد الشعوبيين ثم التتار.
وهبت على هذا الساحل الإفريقي المسلم رياح الأحداث، وتكونت مملكة (الفرنج) الإسلامية التي اتخذت (سنار) عاصمة لها، وضمت معظم إقليم النيل الأزرق، ومناطق ساحل البحر الأحمر من (سواكن، فصوع، فعصب، فتاجورة، فيجبوتي، فبريرة)، فراس صافون) وتم لها ذلك في سنة 1504م، أي في مطلع القرن السادس عشر(1).
ومرت سنون أصاب مملكة النونج ما يصيب الدول من الشيخوخة والضعف، فتوزعتها الأطماع، وكان الغرب المستعمر قد بدأ يتجه نحو إفريقية منذ أواخر القرن الثامن عشر عندما زار الرحالون مناطق السودان، وعندما تأسست الجمعية الإفريقية في لندن سنة 1788م. وبدأت انجلترا وفرنسا وإيطاليا تتحفز لالتهاب هذا الموقع الاستراتيجي الخطير. وشاء القدر أن يقدم محمد علي باسم الدولة العلية دولة الخلاف العثمانية لحماية هذه المناطق المسلمة من مواضع الاستعمار التي بدأت تعمل في أوصال القارت الأربعة تقطيعًا وتمزيقًا.
وكانت حلقات مريرة من الصراع بين (مصر) ممثلة للدولة العلية وبين الدول الاستعمارية التي لجأت إلى الإيقاع بين دولة الخلافة ومصر كي ينقل إدارة هذه الأجزاء من مصر إلى والي جدة حتى يسهل على الاستعماريين التهامها بالاتفاقيات أو الشراء أو التأجير، كما كان شائعًا في ذلك الوقت، ولكن مصر وقفت لهم بالمرصاد صامدة، ونجحت في إقناع الخليفة العثماني بالتنازل نهائيًا عن إدارة هذه المناطق وضمها إلى مصر، وبهذا صارت هذه المناطق جزءًا من السودان الذي تولت مصر إدارة نيابة من الخلافة العثمانية.
وفي سنة 1877م اضطرت انجلترا إلى عقد معاهدة مع مصر وضحت حدود السودان، وبمقتضى هذه المعاهدة وضعت خرائط رسمية معترف بها دوليًّا، وتبين أن (مصوع ومصب وجيبوتي وزيلع وهرر وبربرة ورأس صافون) كلها من السودان، أي من أملاك الدولة العثمانية(1).
ومع ذلك لم ييئس الاستعمار واستمرت مؤامراته، فتقدمت انجلترا لرأس القارة ومدخلها (إلى مصر) ومارست دسائسها حتى أوقعتها في الديون، وبالتالي الاضطراب، ثم الثورة العرابية، ثم الاحتلال.
وعندما تراخت قبضة مصر عن جنوبها وعن السودان بدأت الدول الاستعمارية تتوثب لتحقيق أطماعها القديمة في ساحل إفريقية الشرقي، فاحتلت إيطاليا (بيلول) في شمال خليج مصب، وقامت بالاستيلاء على المنطقة الساحلية قرب (مصوع) ومدت سيطرتها على باقي الأجزاء التي سموها فيما بعد باسم (إريتريا)، ووقَّع إمبراطور الحبشة معاهدة مع إيطاليا يقر ملكيتها لإريتريا، وأثناء ثورة المهدي بالسودان أرادت انجلترا أن تدعم علاقتها مع الحبشة على حساب السودان، فسمحت (لمنلبك) والي الحبشة بالاستيلاء على (هرر) وانتزاعها من الأملاك السودانية، ونجح هذا الملك في خطته وقتل ملك هذه المدينة المسلم سنة 1887م، ثم أرسل برقية إلى القائد الإنجليزي في عدن يفتخر فيها بقتل الأمير عبد الله حاكم (هرر)(2).
وهكذا تم بتر هذا الجزء الساحلي من السودان، أي من أملاك الدولة العلية، دولة الخلافة، وتوزعته الحبشة وإيطاليا بالتآمر مع انجلترا.
ومنذ مطلع القرن العشرين أخذت دولة الخلافة في الضعف والتدهور، وأخذ الاستعمار يلتهمها إقليمًا وراء إقليم: الجزائر وتونس وليبيا وسوريا لفرنسا، ومصر والسودان والعراق وفلسطين والأردن لانجلترا، وليبيا والصومال وإريتريا لإيطاليا، وشغل كل إقليم بنفسه وبمأساته.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية سنة 1941م احتلت انجلترا (إريتريا) باسم قوات الحلفاء ضد دول المحور، وخضعت إريتريا للإدارة البريطانية التي دامت إحدى عشرة سنة ونصف سنة، إلى أن صدر قرار الأمم المتحدة في 2 ديسمبر سنة 1950م بفرض الاتحاد الفيدرالي بين إريتريا وبين أثيوبيا، وأصبح هذا القرار نافذًا من 15 سبتمبر 1952م، فأصبحت إريتريا دولة مستقلة تحت لواء التاج الأثيوبي.
دور أمريكا في قرار الأمم المتحدة:
بدأت خيوط المؤامرة الأمريكية الأثيوبية بخطوة غزل ذكي من جانب أثيوبيا، حيث قدم الإمبراطور هيلاسي رشوة صغيرة، فقد أهدى للسفارة الأمريكية قطعة أرض بجوار القصر الإمبراطوري في أثيوبيا، وقال: إنها عرفان مساعدة أمريكا والرئيس روزفلت لأثيوبيا في سبيل الحرية (كذا) في تلك الفترة كانت إريتريا تحت الإدارة البريطانية – كما قدمنا – بتكليف من المكتب الخارجي للمناطق الإفريقية.
كانت إريتريا في ذلك الوقت مطمعًا لكل من فرنسا التي تريد توسيع مستعمرتها في الصومال الفرنسي، ولإنجلترا التي تريد ضمها إلى السودان الإنجليزي آنذاك مع ترك جزء للحبشة، وكانت أمريكا تحكم أيضًا أن يكون لها مكان في المنطقة وهي التي لم يكن دخلت ميدان الاستعمار بعد.
وأما أثيوبيا فقد كانت تشعر بأنها أضعف الطامعين في إريتريا وأكثرهم شراهة في نفس الوقت، فتنتق ذهن الإمبراطور العجوز عن حيلة خبيثة تعوضه عن ضعفه، إذ ربط أثيوبيا بعجلة أمريكا، وعرض على أمريكا مشروعًا مؤداه أن يكون الملك والسيطرة على إريتريا لأثيوبيا، والانتفاع لأمريكا أو لهما معًا.
ولما لم يكن لأمريكا مجرد شبهة أو وجهة نظر تتعلل لها لدخول إريتريا وجدت أن في خبث الإمبراطور وتدبيره ما يحقق لها ما تتمنى، فأخذت وجهة نظر الحبشة، وتبنت رأيها.
وجاء إلى الحبشة أفويل هاريمان مبعوثًا من الخارجية الأمريكية سنة 1942م، وبحث ما يمكن أن تقدمه الحبشة إلى أمريكا إذا تم لها الاستيلاء على إريتريا، حتى يطمئن أولاً على ثمن الصفقة، وعلى الفور وافقت الحبشة على منح تسهيلات عسكرية في (أسمرا) لإنشاء مركز اتصالات واستخبارات.
وفي مؤتمر الصلح سنة 1947م تقرر تشكيل لجان للبحث في شأن المستعمرات الإيطالية ومن بينها إريتريا، وبدأت اللجنة الأمريكية السوفيتية الإنجليزية الفرنسية زيارتها لإريتريا، وبالرغم من أنها شاهدت تلهف الشعب على الاستقلال والتقت بالزعماء الذين حملوا مطالب شعب إريتريا في التحرر والاستقلال التام، إلا أنها لم تتفق على رأي.
وتنفيذًا لاتفاقية الصلح أحيل الموضوع إلى الأمم المتحدة في 15/9/1948م، وبدأت المناورات والمؤامرات في أروقة الأمم المتحدة، وتوالت لجان الدراسة والوفود والزيارات، ولما كانت النية مبيتة فقد عموا وصموا عما رأوا وسمعوا، وقدمت أمريكا مشروعها الذي قضي بإنشاء (اتحاد فدرالي) بين إريتريا وأثيوبيا للشعب الإريتري فيه أقصى درجة من الحكم الذاتي، ويشارك الإريتريون في حكومة اتحاد مشتركة (وهذا المشروع – كما أشرنا – يمكن للولايات المتحدة أن تؤمِّن مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة دون حاجة إلى احتلال مباشر).
وكانت المواد التي تشير إلى استقلال إريتريا الذاتي والمشاركة في حكم اتحادي …إلخ، مجرد بنود شكلية اتفق الطرفان: أمريكا وأثيوبيا على وضعها في النصف، حتى يخطر المشروع بموافقة الأمم المتحدة، ثم تتكفل حكومة أثيوبيا بإلغائها تدريجيًا وتنزع من إريتريا أية صبغة استقلالية كما حدث بالفعل.
وانظر هنا نتائج وآثار التواطؤ الأمريكي الأثيوبي:
في 2/12/1950م أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتحاد الفدرالي بقرارها رقم 390 بأغلبية 46 صوتًا ومعارضة كل قوى السلم والحرية.
في 7/9/1951م (أي بعد أقل من مضي سنة) وقّع الجانبان الأثيوبي والأمريكي معاهدة لمنح أمريكا تسهيلات تجارية وعسكرية وبحرية في الأرض الإريترية، وذلك قبل إنشاء الحكومة الإريترية التي نصَّ قرار الأمم المتحدة على تشكيلها.
في 22/5/1953م قام الإمبراطور هيلاسي بزيارة شكر للولايات المتحدة، وفي هذه الزيارة وقّع الطرفان الأثيوبي والأمريكي على اتفاقية خاصة تتمكن أمريكا بمقتضاها من أن تقيم في (أسمرا) – عاصمة إريتريا – أضخم قاعدة عسكرية للاستخبارات في إفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا طبعًا بالإضافة إلى الامتيازات والتسهيلات العسكرية للجيوش الأمريكية التي ليس لها مثيل إلا في الأراضي المستعمرة.
قرار الأمم المتحدة وموقف أثيوبيا منه:
من أعجب العجب أن تصدر الأمم المتحدة قرارها هذا بالاتحاد الفدرالي من غير حق، ولا مجرد شبهة في حق، فليس هناك أي رابطة بين أثيوبيا وإريتريا من أي لون أو نوع من الروابط، بل هو كما قدمنا ثمرة تواطؤ أثيوبي أمريكي.
ومن العجيب الأعجب أن يأتي في ديباجة القرار: (إن الهدف الرئيسي من إصداره هو إعطاء أثيوبيا بحر إلى البحر) هكذا… تعترف الأمم المتحدة بأن هدف القرار وضع شعب بأكمله وأرضه تحت سيطرة دولة أخرى، كي تجد لها منفذًا على البحر.
سيظل هذا القرار شاهدًا على طور من أطوار المنظمة الدولية كانت فيه واقعة تحت تأثير القوى الاستعمارية الكبرى. وإذا جاز هذا المنطق فلتعد كل دولة ذات نفوذ ما تحتاجه من أراضي الدول الأخرى.
إن قرار الأمم المتحدة رقم (290/أ) الخاص بالاتحاد الفدرالي بين إريتريا وأثيوبيا ينص على أن إريتريا تتمتع بحكم ذاتي على أساس المبادئ الديمقراطية، وما يتبع ذلك من وجود دستور وبرلمان وحكومة منتخبة، لضمان حقوق الإنسان والحوريات الأساسية، كما أن للإريتريين حق الاشتراك في حكومة الاتحاد على أسس ومعايير تضمن القرار تحديدًا لها، إذ ينص القرار على أن يكون للحكومة الإريترية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في حقل الشئون الداخلية (المادة الثانية)، وعلى أن يتكون (المجلس الإمبراطوري الاتحادي) من عددين متساويين من الممثلين الأثيوبيين والإريتريين، ويشترك مواطنو إريتريا في الجانبين التنفيذي والقضائي لحكومة الاتحاد، ويمثلون الجانب التشريعي وفقًا لأحكام القانون وبنسبة عدد سكان إريتريا إلى عدد سكان الاتحاد (المادة الخامسة).
وحتى هذا القرار الحائر وهذا الاتحاد الفدرالي الظالم لم يكف أثيوبيا، فأخذت طريقها إلى مسح قرار الأمم المتحدة وطمس معالم إريتريا تمامًا، وضمها إلى أثيوبيا، وبدأت خطواتها في ذلك الطريق مبكرًا في 15/9/1952م:
تعرضت إريتريا لنظام ضرائبي جائر يهدف إلى خنق الحياة الاقتصادية وتحطيم الاقتصاد الإريتري.
وأجبرت كبريات المؤسسات الاقتصادية على الانتقال إلى أديس أبابا، واضطرت القوى العاملة إلى الهجرة إلى السودان والسعودية.
وحظرت نشاط الأحزاب السياسية.
وحلت اتحاد العمال.
وملأت السجون بالمعتقلين.
وصادرت جميع الصحف المحلية.
وألغت تدريس اللغات التجريبية والعربية في إريتريا، متجاهلة نص المادة الثامنة من الدستور الإريتري، تلك المادة التي وضعها خبراء الأمم المتحدة نزولاً على رغبة الجماهير الإريتريا، وخضوعًا لإصرارها.
وفي 14/9/1958م أمر الإمبراطور بإنزال العلم الإريتري باعتباره رمزًا من رموز السيادة والشخصية الوطنية في إريتريا.
واستمر الحكم الأثيوبي يلغي بالتدريج كل مظاهر الكيان الإريتري، ويفرض سيطرته على المؤسسات الدستورية، واستمر يتحدى مشاعر الشعب الإريتري وعقيدته.
ففي أغطسس سنة 1960م صدر قرار بإلغاء المحاكم الشرعية، ليحاكم المسلمون أمام المحاكم الحبشية حتى في الشئون والأحوال الشخصية.
كما صدر قرار بتعديل أحكام الميراث الشرعية وتغيير الأنصبة، كما نصَّ عليها الدين.
كما صدر قرار بتغيير قوانين الأحوال الشخصية، فأعطيت المرأة حق خلافة زوجها، ومنع تعدد الزوجات، وحكم باقتسام أملاك الزوج والزوجة مناصفة في حالة الطلاق.
وأخيرًا في 14/11/1962م أعلن الإمبراطور إلغاؤه لقرار الأمم المتحدة بإرادته المنفردة، وأعلن اعتبار إريتريا مقاطعة من مقاطعات أثيوبيا، فألغى الدستور كلية، وحل البرلمان، وجاء من أثيوبيا حاكم عسكري عام ليحل محل رئيس السلطة التنفيذية المنتخب، وتحول القضاء الإريتري إلى جهاز من أجهزة القمع الأثيوبية..
كفاح الشعب الإريتري:
وأمام هذا التواطؤ الأثيوبي الأمريكي الذي سخر بالأمم المتحدة لإصدارها قرارها، وإزاء هذا الاستبداد الذي لم يكفه قرار الأمم المتحدة الجائر وفعل به ما فعل، إزاء هذا كيف كان موقف شعب إريتريا؟؟
لم يستكن الشعب الإريتري ولم يغفل عما يدير له، فقد بدأ يستعد ويتحفز ضد الحكم الإيطالي، فقامت الجمعيات الشعبية ثم تحولت إلى أحزاب سياسية عقب الحرب العالمية الثانية، ثم تابعت مناقشة القضية أمام الأمم المتحدة، وقد تكونت الكتلة الاستقلالية ردًّا على مشروع التقسيم الذي قدم إلى الأمم المتحدة من وزير خارجية بريطانيا وإيطاليا، ثم على مشروع الاتحاد الفيدرالي.
وأخيرًا أعلنت الثورة المسلحة بعد ما فشلت جميع المحاولات السياسية والسلمية، فانطلقت شرارة الثورة الإريترية في اليوم الأول من سبتمبر سنة 1961م، وظلت الثورة تناضل وتجاهد في ظل أقسى الظروف وأبشعها، فقد استخدم الإمبراطور وسائل القمع والإرهاب لا تجوز في شرعة ولا قانون.
ولقد شاءت الظروف أن أعيش عامين قريبًا من الحدود السودانية الإريترية، وسمعتُ بأذني من شهود عيان أن أجهزة القمع الأثيوبية كانت تدخل القرية الإريترية بعد إطلاق النار على أهلها فتسقط منهم من يسقط ويفر من يفر، ويؤسر من يؤسر، ثم تحرق القرية بعد استباحتها للجنود الأثيوبيين، ثم يقتل الأسرى، ويمثل بالجثث، فتقطع إربًا إربًا، ثم توضع في عربات النقل لترمى على قرى المنطقة لكل بيت عضو، إرهابًا وتحديًا وإنذارًا لكل من تحدثه نفسه بأن ينضم إلى الثورة بأنه سيلقى مثل هذا المصير.
ومع ذلك صمد الشعب الثائر، وحققت ثورته نتائج، فثلج صدر كل الأحرار والأطهار.
حررت الثورة ثلثي الريف الإريتري.
دارت المعارك المسلحة في قلب المدن الإريترية أسمرا وعصب.
استولى الثوار على كثير من معدات الجيش الأثيوبي الذي كانت وحداته تفر أمامهم كالخراف.
وصل الكفاح إلى داخل أثيوبيا، فقد تعاطف مع الثوار جماهير من أجزاء أثيوبيا ومن جموع الطلاب والعمال وغيرها.
فضحت الثورة التواطؤ الأثيوبي الاستعماري بعامة، والأثيوبي الأمريكي بخاصة.
يبلغ من شمول الثورة وانتشارها أن اعترف بها الخصوم والأعداء الطبيعيون. قال تشارلز جلاس مراسل شيفاجو ديلي نيوز: إنه لمس بنفسه حماسًا بين الشعب الإريتري لقواتهن وان ما تواجهه أثيوبيا هناك هو ثورة شعبية (الأهرام 13/3/1970م).
وما زالت هذه الثورة التحررية تجابه قوى عظمى شرقية شيوعية تقف وراء أثيوبيا وتدعمها واستعمارية غربية تضيء للشيوعية النور الأخضر لتتقدم لسحق الثورة الإريترية الإسلامية.
أليست الثورة الإريترية ثورة إسلامية، وعندما يتعلق الأمر بالإسلام فإن الشيوعية والرأسمالية تتعاونان وتنسيان ما بينهما تمامًا، فإن الإسلام في نظرها – وهذا حق – العدو الأخطر للشيوعية الملحدة وللرأسمالية الاستعمارية الحاقدة في نفس الوقت.
إسرائيل في إريتريا:
لقد جمع أثيوبيا وأمريكا هدف واحد ثم جمع إسرائيل نفس الهدف، فقد رأى الإمبراطور الداهية أن لإسرائيل مصالح في البحر الأحمر، وأنها يهمها إخضاع هذا الساحل الذي يمتد نحو 1000 كم لأثيوبيا، وإلا فسيصير البحر الأحمر عربيًا تمامًا، وأن على إسرائيل أن تشارك في إخضاع إريتريا، وأن تؤدي دورها في هذه المهمة، ورحبت إسرائيل محققة بذلك عدة أهداف:
من الناحية الإستراتيجية العسكرية تؤمن مسافة طويلة من شاطئ البحر الأحمر، أو قل تكسر حلقة من حلقات الحصار العربي في البحر الأحمر.
ومن الناحية الاقتصادية – وهذا جانب هام جدًّا – عملت إسرائيل على نهب ثروات إريتريا وشرق السودان، حيث أن قبائل (الهدتدرة) و(بني عامر) و(الأمراء) قبائل سودانية إريتريا تعيش بين إريتريا وشرق السودان، وكل ما في أيدي هذه القبائل ينساب إلى نهر التجارة الأثيوبية الإسرائيلية.
جاء في نشرة خاصة أصدرتها الحكومة الأثيوبية واسمها (الزراعة والصناعة والتجارة) في الحبشة الصادرة في يونيو 1957م: بدأت شركة (أنكودي الإسرائيلية) الضخمة أعمالها في أثيوبيا سنة 1955م، وهي أكبر شركة لتعبئة اللحوم في الإمبراطورية الأثيوبية، فلها من الآلات الميكانيكية ما يمكنها من إنتاج 250,000 علبة يوميًا من اللحم السعبأ بالإضافة إلى 300 طن من اللحم المثلج، و3500 من الجلود المدبوغة شهريًا، وللشركة مصانع لتحويل فضلات اللحوم والعظام والشحم إلى مواد أخرى نافعة.. وتنتج 100 طن سماد عضوي شهريًّا من هذه المخلفات، كما تنتج طنًّا ونصفًا من قطع اللحوم التي تزن الواحدة منها اثنين كيلوجرام للاستهلاك اليومي، وتعتبر مصانع شركة (أنكودي) من المصانع العالمية للحوم، ويذبح مصنع (أنكودي) في أسمرا – عاصمة إريتريا – يوميًا 360 بقرة يشتريها بأبخس الأثمان، ولها في أسمرا مصنع كبير لدباغة الجلود. وتصدر (أنكودي) إلى إسرائيل 5000 طن سنويًا من الأسماك المطحونة التي تستخدم لتسميد الأرض، ويزداد إنشاء الشركات الإسرائيلية في إريتريا، وقد أعطيت مناطق إريترية كمقاطعات لشركات إسرائيلية تستغلها كيف تشاء، ومن ذلك منطقة (عايلت) وهي تابعة لمديرية مصوع.
ولا يقف التعاون الأثيوبي الإسرائيلي عند هذا الجانب، فقد عينت الحكومة الأثيوبية اليهودي الإسرائيلي (ناتان مادين) مستشارًا قانونيًا وهو أيضًا النائب العام المختص بوضع قوانين الدولة، وتستعين أثيوبيا بمدرسين من إسرائيل، وخبراء إسرائيل في التخطيط والزراعة والسدود تموج بهم أثيوبيا دائمًا.
وفي مناقشات الكونجرس السرية ما يشهد بدور إسرائيل في محاولة جمع ثورة إريتريا، فقد جاء على لسان أحد الأعضاء ردًّا على (قولبرايت) حين سأل: إلى أي مدى شاركت أمريكا وإسرائيل في برنامج مقاومة التمرد؟ قال العضو ردًّا على هذا السؤال: كان ذلك مبادرة إسرائيلية، فالإسرائيليون يعلقون أهمية خاصة على علاقتهم بأثيوبيا حيث تمثل الدولة الصديقة الوحيدة على الجانب العربي من البحر الأحمر وعليه فالبرنامج اتخذ كبادرة إسرائيلية.
عروبة إريتريا:
إن عروبة إريتريا ليست محل نقاش أو نظر، ولسنا – العرب – الذين نقول بذلك، بل إن أهل إريتريا ينادون به ويفخرون، والواقع – قبل كل شيء – يقول بذلك، فنظرة إلى الخريطة نرى موقع إريتريا ينطق بعروبتها، فهي على ساحل البحر الأحمر بين الصومال العربي والسودان، وحين تقدموا بمذكرتهم إلى جامعة الدول العربية كانوا يعبرون أصدق تعبير بقولهم: “إن إريتريا هي فلسطين البحر الأحمر، وإن قوى الطغيان والشر تتربص بإريتريا لا من حيث كونها دولة تطالب باستقلالها، ولكن لأنها قبل كل شيء امتداد للوطن العربي وعمق استراتيجي ظهير لنضال العرب وصراعهم التاريخي.
والآن: ما موقف القوى المحبة للسلام والمناصرة للعدل؟ وقبل ذلك: ما موقف الأمم المتحدة؟ ولماذا لا تتدخل؟ مع أن الفقرة (201) من التقرير النهائي لمندوب الأمم المتحدة تقول بالحرف الواحد: ” إذا نقض القرار الفدرالي فإن القضية الإريترية يمكن أن تصبح عندئذ من اختصاص الجمعية العامة للأمم المتحدة).
فلم لا تتدخل الأمم المتحدة الآن؟ إنقاذًا لهذه الملايين من الفتك والتنكيل.
ومع كل ذلك وبعد كل ذلك: ألست معي أيها القارئ العزيز أن المأساة في حجمها الأكبر مأساة صمتنا الجاهل بما يجري لنا، أو جهلنا الصامت بما يراد لنا؟!
(1) سنعود إن شاء الله إلى تفصيل الحديث عن الحبشة وعلاقتها بالإسلام في مقال خاص.
(1) يقظة السودان للدكتور إبراهيم العدوي، ص11، هـ1
(1) انظر خريطة السودان في القرن التاسع عشر.
مقالات تاريخية أخرى
هوامش على تاريخ الحجاج
صار كل من يكتب في التاريخ في عصرنا هذا يذكر ضرب الحجاج للكعبة بالمنجنيق، ويخرج هذا القول مخرج الخبر الثابت الذي لا شك فيه، ومن هنا لا يكلف نفسه بمناقشة الخبر، والنظر في صحته أو سقمه، بل صار هناك منهج عجيب، يجعل شيوع الخبر على ألسنة العامة دليلاً على صحته، وعلى هذا المنهج جرى معظم الأدباء حينما يتناولون التاريخ بأسلوب القصة أو المسرحية ، ولذا رأينا قضية ضرب الكعبة بالمنجنيق - لبشاعتها - مجالاً للتصوير بأقلام الأدباء، والتلوين ببراعتهم وفنهم، ويُعرض هذا بأبلغ صوره، وأفظع هيئة على المشاهدين، فتقشعر لها الأبدان، وتغلي النفوس، ويبوء الحجاج بما يستحقه بسبب هذا الجرم الشائن، وهو بالقطع بريء من هذا.شيخ الإسلام ينفي هذايقول شيخ الإسلام بن تيمية: "ومن قال إن أحدًا من خلق الله قصد رمي الكعبة بمنجنيق أو عذرة، فقد كذب، فإن هذا لم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام، والذين لا يحترمون الكعبة كأصحاب الفيل والقرامطة لم يفعلوا هذا، فكيف بالمسلمين الذين يعظمون الكعبة!! ولما قُتل ابن الزبير، دخلوا بعد هذا إلى المسجد الحرام، فطافوا بالكعبة، وحج بالناس الحجاجُ بن يوسف ذلك العام، وأمره عبد الملك بن مروان ألا يخالف عبد الله بن عمر في أمر الحج، فلو كان قصدهم بالكعبة شرًّا، لفعلوا ذلك بعد".انتهى كلام شيخ الإسلام بنصه.وهذا هو الكلام الذي يقتضيه عقل العقلاء المنصفين، ولا يُمليه تحامل المتحاملين، وبغضاء المبغضين.فلو قصد الحجاج الكعبة بالمنجنيق، وضربها من هذا الارتفاع الشاهق، من فوق جبل أبي قبيس، فهل كان يبقى منها حجر فوق حجر - والعياذ بالله - وهل يقبل العقل أن مسلمًا يصلي الخمس مستقبل القبلة يفعل هذا ؟ ولو فرضنا جدلاً أن الحجاج انسلخ من الدين – حاشاه – وأراد بالكعبة شرًّا، فهل كان جنوده وأركان حربه كلهم مثله؟ أيقبل عقل عاقل أن يرتد عن الإسلام جيش الحجاج بكامله، فلا يوجد فيهم من يصيح في وجه الحجاج: ويلك يا عدوَّ الله؟ أم تراهم كانوا خانعين خاضعين أذلاءيضربون الكعبة التي يعظمونها ويصلّون إليها ولا يستطيعون أن يقولوا للحجاج: لا ؟ أيصح هذا في عقل عاقل ؟؟سيقول قائل: ولكن المنجنيق قد نصب، والضرب قد حدث، فهل تنكرون ذلك؟؟ونقول: فرقٌ كبير، وبونٌ شاسع بين أن يقال: نصبت المنجنيق لضرب ابن الزبير، وأن يقال: نصبت لضرب الكعبة. فرق كبير وبون شاسع بين أن يقال: ضرب الحجاج معسكر ابن الزبير بالمنجنيق، وأن يقال: ضرب الكعبة بالمنجنيق.وشاهدٌ من مآسي عصرنا..في فجر اليوم الأول من المحرم سنة 1400هـ فوجئ المصلُّون بجماعة تبايع شخصًا بين الملتزم والحجر الأسود على أنه المهدي المنتظر، ورفعوا السلاح، وغلقت أبواب الحرم، دوّى الرصاص في أرجائه، ونادى هؤلاء المعتصمون بالحرم كل الحكام والمسؤولين بالسمع والطاعة والبيعة لهذا (المهدي)!!!وكان ما كان من حصار هؤلاء في داخل الحرم، واستخدام أفانين وضروب من الأسلحة لفك أسر الرهائن من المصلين والطائفين الذين أغلقوا عليهم أبواب الحرم أولاً، ثم لتطهير الحرم منهم ثانيًا.كان ما كان مما تقشعر الأبدان لذكره!! فهل يقول قائل: إن الحكومة قصفت الحرم بالقنابل، وأحرقته بالغازات، وهدمته بالدبابات؟؟ حاشا لله!!هذه حادثة عشناها، ورأيناها، وأحاط الجميع بها خبرًا، وهي تشبه واقعة ابن الزبير تمامًا، فكلاهما لاذ بالحرم، وكلاهما لقي مقاومة من السلطان حتى استسلم ، وفي الحالين كانت دماء وقتلى في داخل الحرم ، فلماذا موقف الحجاج وحده يفسَّر بأنه عدوان على الكعبة بالمنجنيق؟؟ ولماذا هذه البشاعة في تصوير موقف الحجاج؟ واتهامه بكائنةٍ لا تكون من مسلم يقول:لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، هل أدمنَّا جَلْد ماضينا؟ هل صار تشويه تاريخنا متعة لنا، وملهاة نتلهى بها عن واقعنا البئيس ؟ ثم هل من حق من يتناول التاريخ في عمل أدبي أن يخترع أحداثًا لم تكن؟؟ ( للحديث بقية )
د. عبد العظيم الديب
التاريخ.. وسلطان العاطفة
لا أحد ينكر سلطان العاطفة ـ أية عاطفة كانت ـ على الإنسان، فأنت تستطيع أن تحاور صاحب فكرة حول فكرته، أو تجادل صاحب رأي حول رأيه، وقد تنجح ـ إذا أحسنت تقديم الأدلة والبراهين ـ أن تصرف صاحب الفكرة عن فكرته، أو صاحب الرأي عن رأيه. أما صاحب العاطفة فهيهات هيهات، لن تستطيع أن تحوّل من يحب أو يكره، عن حُبّ ما يحبه، أو كراهية ما يكره، أو تحوّل من يزدري ويحتقر إلى احترام وتقدير ما يزدريه أو يحتقره!! وسبب ذلك أن العاطفة غيرُ الرأي والفكر، فالعاطفة تتكون بهدوء، وعلى مدًى طويل، فالعاطفة أمرٌ معقّد مركّب، ذلك أنها تبدأ بالإدراك والشعور والميل والنزوع، ثم ترتقي حتى تصبح عاطفة تنشب في القلوب، وتصبح محل حماية ورعاية، ويصعب مناقشة صواب موضوعها أو خطئه، ويصبح بديهية من البديهيات، ومسلمة من المسلّمات. ومن ثم تصبح هذه العاطفة هي الموجه لتصرفات صاحبها، والدافع له نحو كل ما يُشبعها ويستجيب لها، وبالتالي النفور والمقاومة لكل ما يضادها أو يخالفها، وأصدق ما يصور ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يُعمي ويصمّ" (رواه أبو داود في سننه، وسكت عنه، وقال الحافظ العراقي: يكفينا سكوت أبي داود). وأحب أن أؤكد هنا أن العاطفة ليست بالضرورة نقيضاً للعقل، فالعاطفة لا تُبنَى، ولا تنمو، ولا تنشأ إلا عن مجموعة من الخبرات، والإدراكات، والإنكار، والآراء، فإذا صحت هذه الأفكار، وصدقت هذه الآراء، نشأت عنها عاطفة سليمة قويمة، تدفع إلى الطريق الصحيح، والموقف الصائب. فإذا صح عندك هذا، وأدركْت مدى سلطان العاطفة، فاعلم أن دراستنا للتاريخ الإسلامي المبْتسرة الممزّقة، قدّمت لنا معلومات منقوصة، وأخبارًا مبتورة، وأحداثًا مختلقة، وساندتها وسائل الإعلام المختلفة بالأفلام والمسلسلات والمقالات، وبالتكرار واللجاجة، والإلحاح نشأ من ذلك كله صورة شوهاء عن تاريخنا الإسلامي، استقرت في أذهان مثقفينا عامة، وعنها نشأت عاطفةُ نفور، بل ازدراء وكراهية للتاريخ الإسلامي في مجمله، وخرجت قضية تصحيح التاريخ الإسلامي من مرحلة تصويب أفكار وتصحيح معلومات إلى تعديل عواطف وتصحيح ميول واتجاهات، وهيهات هيهات. ولكي تدرك صحة ما أقول حاول في مجلسٍ من مجالس المثقفين، أهل الفكر والنظر، ولْيكونوا من الإسلاميين: العلماء والدعاة والمنظّرين، حاول في مجلسٍ أن تذكر تشويه التاريخ الإسلامي، وأن تتحدث عن وجهه المضيء، وإنجازات بني أمية، وحضارة بني العباس، وعدل معاوية، وفقه عبد الملك بن مروان، وورع الرشيد، وعلم المأمون، وجهاد المماليك، وفتوحات الأتراك...الخ إنك أن فعلت ذلك ستجدهم يستقبلون حديثك بفتور، ولا يكادون يطيقونه، ويتملْملون، مما يجعلك مضطراً إلى إيجاز كلامك والإمساك عنه. ثم إذا سكتّ وأمسكت، ستجد من ينبري لك مادّاً قامته رافعاً هامته، يحدثك عن (الموضوعية) في كتاب التاريخ، و(الأخطاء) و(السلبيات) وضرورة ذكرها (للعظة) و(الاعتبار) وعن (المآسي) و(الظلمات) في تاريخنا. ولا تهدأ (مشاعره) حتى يذكر من وقائع هذا التاريخ ما تقشعر منه الأبدان. ثم لا ينسى أن يغمزك، ويسفه حديثك، فيتكلم عن (السذاجة) في محاولة كتابة التاريخ الإسلامي على أنه كله (إيجابيات) وننسى (السلبيات). ثم حاول مرة ثانية ـ في هذا المجلس نفسه ـ أن تستفتح حديثاً عن المستشرقين، وتكلم عن أفاعيلهم في خدمة الاستعمار والتبشير، وعن أثرهم في تخريب ثقافة الأمة، وتدمير جهاز تفكيرها، وأن منهم من كان يحمل رتباً عسكرية في الجيوش التي حطمت الخلافة، وكان من قادة الفيلق الذي دخل القدس عام 1917م وهو يقدم بين يديه صفوفاً من الكرادلة، ورجال الإكليروس، يتلون صلواتهم، وأهازيجهم، احتفالاً بتحقيق الغاية من الحروب الصليبية وسقوط القدس. ثم انظر وانتبه لمشاعر (هؤلاء العلماء والدعاة والمنظّرين) وهم يستمعون منك هذا الكلام عن المستشرقين، وقارن بينها وبين مشاعرهم عندما كنت تتكلم عن إشراقات التاريخ الإسلامي. سنجدهم أيضاً يتململون، وقد لا يطيقون استمرارك في الحديث، بل سيقاطعك قائلهم:" لا نريد أن نكون متحيزين"، وآخر يكمل:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا" ثم يتسابقون إلى الحديث عن خدمات المستشرقين للقرآن الإسلامي، وعن تحقيقهم لهذا الكتاب أو ذاك، وعن (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث)، وعن (مناهجهم) و(موضوعيتهم)...الخ وستجد من يصفك (بالحدّة) وآخر (بالعنف) وآخر يسوقها لك في صورة دعابة: (يا أخي أنت متطرف). والفرق بين الموقفين هو (العاطفة)، فالذين لم يتحملوا التقدير والثناء على تاريخنا ورجاله هم بأعينهم الذين لم يطيقوا إدانة المستشرقين، وكشف جرائمهم، ووراء ذلك في الحالتين كانت (العاطفة). *** هذه صورة لمواقف (حقيقية) وقعت فعلاً، وآخرها حدث من عدة أسابيع، عندما جمعتنا جلسة ضيقة هادئة، ضمت عدداً ممن يعملون بالدعوة، ويعيشون لها، وكان من بينهم بعض قادة الفكر والتنظير، وجرى الحديث ـ بالطبع ـ حول هموم الأمة ومآسيها، وعن التيارات الفكرية التي تتجاذبها، وكان لا بد أن ننعطف نحو التاريخ، فالأمم الواعية تُهرع إلى تاريخها تستلهم منه العظات والعبر، فكان مما قلتُ: إننا ظلمنا تاريخنا ظلمًا بيّنًا، وقرأناه على غير وجهه، فالأتراك العثمانيون الذين شهد لهم المؤرخون الغربيون بالعدل والتسامح، نشأنا نحن على تبشيع أمرهم، ووصفهم بالجهل والظلم، وأنهم جاءوا بلادنا العربية غزاة قساة، ومستعمرين طغاة، ضربوا علينا أسوار الجهل والتخلف حتى استيقظنا على طلقات مدافع نابليون. مع أن القراءة الصحيحة لتاريخنا تؤكد أنهم ما جاءوا إلى مصر والشام والجزيرة إلا لحماية البحر الأحمر من هجمات البرتغاليين التي تكررت على جدة بقصد الاستيلاء على الحرمين الشريفين، ثم تطرّقتُ إلى نُتفٍ سريعة موجزة عن مواقف بعض الصحابة في الفتنة فُهمت على غير وجهها... وكما توقعتُ، وجدتُ التململ، وعدم الإقبال، بل والنفور، فأمسكتُ عن الحديث، وهنا انبرى أخ كريم وأستاذ جليل قائلاً في حدّة ظاهرة: لا بدّ من ذكر الأخطاء والمآسي في التاريخ الإسلامي، ولا بد عند كتابة التاريخ من ذكر (السلبيات) وعدم الاكتفاء (بالإيجابيات). فقلتُ: إننا أبداً لا يمكن أن نتخلى عن المنهج العلمي الصارم بكل ضوابطه عند كتابة التاريخ، ولكن الأستاذ الجليل ظل في حدته بل غضبه يكرر لا بد من ذكر الأخطاء والسلبيات ـ ولم يكفه قولي بالإلتزام بالمنهج العلمي ـ ثم أردف قائلاً:"يعني الأتراك اللّي بتتكلّم عنهم دُول كان الواحد منهم عندما يتولّى الخلافة يقتل كل أخواته" قالها هكذا باللهجة، ثم ظهر عليه الارتياح، وكأنه اشتفى من الأتراك الذين لم يطق أن يذكروا أمامه بخير. وأنبه هنا إلى أمور: 1ـ إن حديثه هذا لقي قبولاً وارتياحاً لدى صحيح الحاضرين (وإن يكن بدرجات متفاوتة). 2ـ أنني لم أقل أبداً: إننا لا نذكر الأخطاء، فكيف فُهم من كلامي أننا لا نذكر الأخطاء؟؟ 3ـ أن بناء عبارته وألفاظها (الأتراك اللّي بتتكلّم عنهم دول) هذا البناء يدل دلالة واضحة على مخزون البغض والكراهية والإزدراء للأتراك. 4ـ أؤكد أن الأستاذ الجليل صاحب هذا الموقف ليس وحده، بل هو مثال لكل علماء الإسلام ودعاته (إلا القليل النادر). 5ـ وآخر ما أنبه إليه: أنني لا أحكي هكذا ثالبًا أو عائبًا، فصاحب هذا الموقف أخٌ كريم، وعالم جليل، له جهاده وجهوده، وهو نموذج لأساتذة كبار، أصحاب فضل، تعلمنا منهم وتتلمذنا على أيديهم. ثم إنني ـ أبداً ـ لا ألوم علماؤنا وأئمتنا، فعذرهم بيّن واضح، فهم لم يعرفوا من تاريخ أمتهم إلا تلك المزق التي تلقوها في التعليم العام، وعلى المناهج التي صيغت بأيدٍ خبيرة ماكرة، صاغها (دنلوب)، ولم يدرس علماؤنا وقادة الرأي فينا إلا ما قدمته له هذه المناهج، التي شكلّت وجدانه، وصاغت عاطفته، ثم كبر الواحد منهم وصار علمًا من الأعلام في فنّه الذي تخصص فيه، وأصبح رمزاً من رموز الفكر، وواحداً من النخبة التي تقود الأمة وتوجهها، ولم تُتحِ له فرصة لمراجعة وتصحيح ما تعلمه، واستقر في ذهنه من صورة مشوهة عن تاريخ أمته، وأحكام خاطئة صارت بمثابة بديهيات غير قابلة للنقاش، ولا هو بمستطيع أن يعيد القراءة والمراجعة لهذه الأمور التي بعُدت عن مجال تخصصه، ولا هو نفسياً ـ من حيث السنّ ـ يقابل أن يعيد التكوين والتعديل لاتجاهاته، ومشاعره، وعواطفه.
د. عبد العظيم الديب
التاريخ يعيد نفسه
اعتدت كلما راعني من حاضر أمتي ما يروع، وفزّعني من واقعها ما يفزع، أن ألوذ بالتاريخ، وأبدًا تاريخ أمتي لا يخذلني، فدائمًا أجد فيه التفسير وأجد فيه العزاء، وأجد فيه الأمل. وفي الشهور الماضية تولى (كاتب فنان)1 من هؤلاء (القرامزة) الذين يحملون (المطرقة والمنجل) يهوون (بمطرقتهم) على كل أصيل تليد ليحطموه ويزيلوه، ويتربصون (بمنجلهم) لكل نبتة لأمل، وكل عود للمستقبل، ليحصدوه، يمهدون بذلك (للدب) المستوقز .. حمانا وأعاذنا الله. تولى هذا الكاتب (سَحْل) خيار صحابة رسول الله r حيث مكنت له كبرى الصحف العربية اليومية، على طول أربعين أسبوعًا (زد أو انقص منها قليلاً) مكنت له من صفحة كاملة كل أسبوع، يصول فيها ويجول، ولا من دافع ولا رادع " طلب الطعن وحده والنزالا". فمن له مثل هذا الموقع ليردع؟؟ ومن يملك مثل هذا المنبر ليدفع؟؟ وحيل بين الكتاب والعلماء والرد، حيث كانت تُحوّل كل الردود والتعقيبات إلى هذا الكاتب فيطويها، ويخفي ذكر أصحابها، ويوجعهم همزًا ولمزًا، وسبًّا وشتمًا. ومن عجب أنه يعود ليبكي ويندب الرأيَ المكبوت، والفن المرءود، ويستصرخ كل من هب ودب، على "كهنوت الرقابة الدينية" و"غوغائية علماء الدين" و"استبداد الهيئات العلمية والروابط الإسلامية"!! (رمتني بدائها وانسلّت). لُذت كعادتي بالتاريخ - تاريخ أمتي - فقال لي: لا تُرع إنه ضلال قديم، كَيْده مفضوح وسهمه طائش، وسيفه مغلول. وأقرأني صفحة أسلافهم، صفحة (القرامطة)، وقال لي: لو تقرؤون !! لو تتدبرون !! لو تتنبهون!! فهل تأذنون أن أشرك قراءكم الكرام في قراءة هذه الصفحة التي أقرأنيها التاريخ !! صفحة القرامطة؟ كم أكون شاكرًا لو أذنتم، حتى أؤدي الأمانة التي حمَّلنيها التاريخ. القرامطة إحدى فرق الباطنية، الذين اختصهم الإمام الغزالي (حجةُ الإسلام) بكتاب من كتبه، تحدث فيه عن (فضائحهم) وجرائمهم وخبائثهم.. ومما جاء فيه: منهج القرامطة: جاء هذا المنهج كما كشفه الإمام الغزالي على لسانهم، إذ قالوا: نتحصَّن بالانتساب إلى الروافض والاعتزاء إلى أهل البيت، ونتودد إليهم بما يلائم طبعهم: من ذكر ما تم على أسلافهم من الظلم العظيم، والذل الهائل، ونتباكى لهم على ما حل بآل محمد r ونتوصل به إلى تطويل اللسان في أئمة سلفهم، الذين هم أسوتهم وقدوتهم، حتى إذا قبَّحنا أحوالهم في أعينهم وما ينقل شرعهم إلا بنقلهم وروايتهم، انسد عليهم باب الرجوع إلى الشرع، وسهل علينا استدراجُهم إلى الانخلاع من الدين"اهـ (بنصه ص19). هذه هي خطتهم، وهذا هو منهجهم كما ترى: ادعاء الغيرة على الإسلام وتجليه مبادئه. تمجيد آل بيت المصطفى عليه الصلاة والسلام. البكاء على ما أصاب آل البيت وحل بهم. التوصل بذلك إلى سب أئمة الصحابة وكبارهم وتقبيح أحوالهم. سد الباب بين المسلمين وشرعهم حيث قبحوا الصحابة وما ينقل الشرع إلا من جهتهم. (انتبهوا أيها السادة) هذه هي خطة القرامطة (وانظروا حولكم). وسائل القرامطة: كان للقرامطة وسائل يستدرجون بها الأتباع، ويصطادون بها الأنصار والأشياع، وهي مرتبة على درجات بدقة بالغة، تعتبر بحق مثالاً لعبقرية (العمل السري) كما سماها أحد الباحثين المحَدثين. أما الإمام الغزالي (حجة الإسلام) فقد سماها: (درجات حيلهم) وهي: 1- التفرس2- التأنيس3- التشكيك4- التعليق5- الربط6- التدليس7- التلبيس8- الخلع9- السلخويقول الإمام الغزالي: "في الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأمة". وهاك شيء من تفصيل حيلهم: أما التفرس: فمعناه أن يكون الداعي فطنًا ذكيًّا يميز بين من يمكن استدراجه ومن لا يمكن قادرًا على تأويل النصوص والإيهام، بأن لها باطنًا لا يعرفه كل أحد. كما يكون قادرًا على أن يقدم لكل واحد ما يتفق مع مزاجه وميله ومذهبه. وأما حيلة التأنيس: فهي أن يجتهد الداعي في التقرب إلى من يدعوه، والتظاهر له بالتنسك والتعبد، والمواعظ الرقيقة، والتبشير بأن الفرج منتظر. وأما حيلة التشكيك: فهي أن يجتهد الداعي في تغيير اعتقاد المستجيب، وذلك بالأسئلة عن الحكمة في مقررات الشرع، وغوامض المسائل، ومتشابه الآيات، وأسرار الأرقام في مثل: سبع سموات، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، عليها تسعة عشر. وأما عن حيلة التعليق: فتكون بأن يطوي عنه سر هذه الشكوك، ويوهمه بأنه يملك حقيقتها ويعرف كُنهَها، ولكن لا يمكن البوح بها لكل أحد، ولا في كل حين، بل لابد من عهود ومواثيق على من يريد معرفة هذه الأسرار، ويتركه هكذا معلقًا. وأما حيلة الربط: فتأتي بعد التعليق، بأن يربطه بأيمان مغلظة، وجهود مؤكدة، لا يجسر على المخالفة لها بحال، (ومن اطلع على نسخة العهد يقشعر بدنه لهذا الإرهاب الذي ينطق به). وأما حيلة التدليس: فتكون بالتدرج في بث الأسرار إليه بعد أن ربطه بالأيمان والعهود المؤكدة، إذ يأخذ في إطلاعه على قواعد المذهب شيئًا فشيئًا، ويوهمه أن لهذا المذهب أتباع كثيرون، ولكنه لا يعرفهم، بل له أن يسمي بعض المرموقين الذين يُقتدى بهم (على شرط أن يكونوا في بلاد أخرى لا يمكن مراجعتهم) مدعيًا له أنهم على نفس مذهبه. وأما حيلة التلبيس: فتكون بالاتفاق على بعض المسلّمات، والقواعد البدهية، ثم يستدرجه منها إلى نتائج باطلة، وذلك بعد أن يكون قد أسلم له قياده. 9- الخلع والسلخ: وهما بمعنى واحد، إلا أن الخلع يختص بالعمل، فإذا أسلم المستجيب قياده وبدأ العمل والتنفيذ لما يريده منه القرامطة، يكون قد انخلع عن مجتمعه، ووصل إلى درجة الخلع. وأما السلخ: فيختص بالاعتقاد الذي هو خلع الدين، واعتقاد فلسفة المذهب قلبًا وإيمانًا بعد أن أخذها منهجًا وعملاً. هذا تفصيل تدريجهم الخلق واستغوائهم، فلينظر الناظر فيه وليستغفر الله من الضلال. وإلى الله المشكتى .. وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان للقرامطة جولة ودولة: كان القرامطة يتخفَّوْن - كما رأينا - في زي أهل البيت، ويزعمون أنهم يبكون على ما أصابهم، ويُظهرون التعبدَ والتمسك والتزهد، ويبشرون بالعدل الشامل بين الناس، وبسياسة جديدة في المال، تُشبع الجياعَ، وتنصر العمال والفلاحين. فاجتمع إليهم المخدوعون من البسطاء وأفجاج العرب والأكراد، وجُفاة الأعاجم، وسفهاء الأحداث، ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عددًا، ثم الحقدة ممن أزال الإسلام دولتهم، كأبناء الأكاسرة، والدهاقين، وأولاد المجوس المستطيلون، ثم المغامرون الباحثون عن دوْر العاشقون للتسلط والسيطرة. وصار لهم بهؤلاء وهؤلاء أتباع وأشياع، وجند وأنصار، أقاموا بهم دولة، واتخذوا لهم عاصمة!! فلننظر على أي نظام قامت دولتهم؟ كان أول شيء أنهم كشفوا هُويتهم، فأباحوا المحرمات، وأزالوا المحظورات، ونادْوا بالشيوعية في النساء والأموال، وبالطبع - كالشيوعية الحديثة - عجزوا عن تحقيقها في الأموال، فبقي قادتهم ورؤساؤهم يكتنزون المال دون عامتهم، ويسومونهم الخسف والعذاب، ويستغلون جهدهم وعرقهم. ثم كشفوا عن هدفهم الأول ومهم الأكبر، وهو هدم دولة الإسلام، فعاثوا في الأرض فسادًا، وشنوا الحروب في العراق والخليج والشام ومصر والحجاز، وروّعوا الآمنين، وقطعوا الطريق، ونهبوا القوافل، وذبحوا الرجال، وسبَوْا النساء والأطفال، وصار من كانوا يزعمون أنهم دعاة العدل وأئمة الزهد وحماة الضعفاء، صاروا مردة شياطين، صاروا مصدر الظلم والقهر والاستبداد والاستغلال. وكملت جرائمهم بعدوانهم على الحجيج داخل الحرم، يوم التروية ثمانية ذي الحجة، فذبحوا الحجاج وألقوا بجثثهم في بئر زمزم، ومزقوا أستار الكعبة، ونزعوا بابها وميزابها، وبلغت جريمتهم غايتها بكسر الحجر الأسود، وقلعه من مكانه، وخطفه والعودة به إلى عاصمة ملكهم، حيث ظل سنين إلى أن زالت دولتهم، وانفض المخدوعون من حولهم، الذين طمعوا في جنة الشيوعية، وما ذاقوا إلا وبالها وجحيمها.. فهل يعقلون؟؟!