يوميات الراية “أعارضك ولكني أحبك”
بقلم: محمد أبو كريشة
الأحد: 6/12/1987م
كل من يكتبون أو جلهم يصرخون .. لا أحد يهمس .. ولا أحد يبدو مبتسمًا أو منبسطًا في كتابته أو حتى في قوله غير المكتوب. لا تقرأ إلا عراكًا ولا تقرأ إلا صراخًا وهجومًا. هذا هو الأسلوب السائد بين كتّاب العربية، أسلوب محاولة فرض الآراء لا عرضها.
يتحدث الواحد منهم عن الديمقراطية وينسى أن الديمقراطية سلوك وليست مجرد كلمات تردد أو شعارات تطلق.
الديمقراطية سلوك يومي بل لحظي، يجب أن يكون ملازمًا للفرد في أبسط تفاصيل حياته.
إن ما يقال وما يكتب في صحافتنا العربية عمومًا ليس سوى تماسك بالأقلام وكلمات على الورق وتشنجات مطبوعة وركلات بالفصحى.
فرق كبير يتغافل عنه معظم الكتاب، هو الفرق بين النقد والقذف، بين تفنيد الآراء بالحجج الهادئة وتهديد الآخرين بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يقتنعوا.
لا نريد أن نتعلم أدب الحوار ولا نريد أن نتعلم أن خلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأن الاختلاف هو طبيعة البشر وسنة الحياة، وأن اتفاق الأذواق سيؤدي إلى بوار السلع في الأسواق
والأدهى والأمر أن كل هذا الصراخ والعويل يكون أحيانًا وربما غالبًا على لا قضية أو على قضية تشبه قضية البيضة والدجاجة وأيهما أسبق.
وأصحاب القضايا الحقيقيون والأثرياء فكرًا وخلقًا لا يصرخون ولا يوجهون سهام أقلامهم وأسنتها إلى الهجوم على أصحاب الآراء المخالفة، وإنما ينصب حديثهم دائمًا على الآراء المخالفة نفسها لا على أصحابها مع احتفاظهم برباطة الجأش والوقار وعدم الانزلاق إلى مستنقع السب والشتم.
واعلم عزيزي شيئًا في غاية الأهمية هو أن الشتامين والمتشنجين دائمًا مفلسون علمًا وخلقًا وضاقت بهم الحجج المنطقية فلاذوا بالقذف يخفون به جهلهم.
أدب الحوار يا قوم مطلوب حتى مع الكفرة والمارقين وليس مع المخالفين في الرأي والوسيلة.. هذا ما دعا إليه الدين وورد في القرآن الكريم، فليس أعظم درسًا لنا من قول الله عز وجل لنبيه موسى وهارون – عليهما السلام – : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طـه:43، 44].
قول لين لمن ..؟! .. لفرعون الذي ادعى الإلوهية وقال {أنا ربكم الأعلى}.
لا أقول كما قال فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية: “إني أعارضك في الرأي ولكني أدفع حياتي ثمنًا لأن تقول رأيك” ولكني أقول لا تدفعوا حياتكم ثمنًا لشيء فقط، ابتسم لمن تعارضه وامسح بقلمك على قلمه، واربت على كتفيه بكلماتك، واهمس في أذنيه باسمًا: إني أعارضك ولكني أحبك.
مقالات صحفية أخرى
مجلة حوار
من المعروف أن أمريكا منذ أوشكت الحرب الكونية الثانية على نهايتها، بدأت تعد العدة لا لترث العدو المهزوم فحسب، بل ولترث مستعمرات حلفائها ونفوذهم حيث أدركت أن الحرب أنهكت أوروبا تمامًا غالبها ومغلوبها، ومن المعروف أيضًا أن من أهم الأدوات التي حرثت لها الأرض وهيأتها لقبول الهيمنة الأمريكية هي المؤسسات الثقافية، وأخصها دور الصحف والنشر التي أنشئت بأموال المخابرات الأمريكية، وقد نال الشرق الأوسط بعض ذلك بل أكبر نصيب من ذلك. وإن كان هذا ضربًا من الظن، والترجيح والفراسة من قبل فقد صار الآن حقيقة لم يعد أحد بقادر على الجدال فيها، بعدما أذيع تقرير اللجنة التي شكلها الكونجرس الأمريكي برئاسة السناتور "تشرش" لتقصي نشاط المخابرات الأمريكية، وبالذات في مجال دور النشر والصحف. وقد أدت هذه المؤسسات دورها في تدجين كثير من المثقفين واحتلال كثير من القيم والمفاهيم مما أدى إلى بعثرة الرؤية وتشتيت الخطى، ويذكر الجميع "دور مؤسسة فرانكلين للنشر والتوزيع" الذي كثر الحديث عنه الآن بعد فوات الأوان، ويذكر الجميع أيضًا "مجلة حوار" موضوع حديثنا. هذه المجلة التي أنشأتها المخابرات الأمريكية في بيروت، واستطاعت أن تستقطب مجموعة من الأقلام وأشباه الأقلام، ليس المهم ما يكتب الكاتب، ولكن المهم حجم الشلة التي ينتمي إليها، وإن لم يكن هو ذا شأن، ومع الأجور المرتفعة "جدًّا" والتي كانت تدفع بصفة شبه دورية مما جعل الارتباط بها يشبه الحبل السري يمثل لصاحبه شريان الحياة. لم تخف هذه المرحلة وجهها، ولا يستطيع واحد من "عملائها" أن يقول: إنه خدع فيها، ذلك أنها أعلنت عن هويتها والقيم التي تحمل لها بصراحة لا تحسد عليها، فقد كتبت في عددها الخامس الصادر في يوليو سنة 1963م تحت عنوان "بهذه القيم نؤمن" كتبت تقول: "إن الحضارة الأوروبية المنبثقة عن التقاليد اليونانية والرومانية والمسيحية ترتبط في وعينا ببعض القيم، وجماع هذه القيم يعطي صورة كاملة عن الإنسان الذي كونته هذه الحضارة. إننا نصدر هذه المجلة ونحن نطمح إلى إثارة هذه المعركة في الضمائر وتحريك القوى الثقافية والروحية في سبيل الدفاع عنها، مستمدين حيويتنا من الماضي والحاضر والجيل الصاعد الذي يحمل رسالة فنية صافية". هذه المجلة التي تعلن أنها "تؤمن بقيم الحضارة الأوروبية المسيحية، وتعمل على إثارة هذه المعركة في الضمائر، وتثبيت هذه القيم في "جيل صاعد يحمل رسالتها الفنية" ثم توقفت بعد أن أدت دورها، وبلغت رسالتها، وأعلن رسميًا عن تبعيتها للمخابرات الأمريكية. هذه قصة "حوار" وهذا تاريخها، أما رئيس تحريرها فقد كوفئ بتعيينه أستاذًا في إحدى الجامعات الأمريكية. أما مراسلها في القاهرة فقد عُيِّن محررًا في مجلة الطليعة "اليسارية" التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام في ذلك الوقت. من مدرسة "حوار" ومن العجيب أن بعض هؤلاء الأذكياء يستغلون آفة النسيان عند القراء، وانشغال من لم ينس عن تتبع كلامهم والتعقيب عليهم، فيدعون عنتريات لا أصل لها، ويدحرجون أكاذيب وافتراءات ما أنزل الله بها من سلطان، وبعض هذه الافتراءات مما يجرمه القانون، ويدخل تحت إثارة الفتنة الطائفية من مثل قول المراسل السابق لمجلة حوار في بعض مقالاته: "واشتد الصراع حتى قتل بطرس غالي" أو نحو هذه العبارة مما يوحي بأن مقتل بطرس غالي كان على "الهوية" وهو يعلم وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ يعلم لماذا قتل بطرس غالي "ولا نريد أن ننكأ الجراح" فلم يكن بطرس غالي وحده هدفًا للاغتيال، وإنما كان معه أكثر من عشرة نجحت محاولات الاغتيال في بعضهم، وفشلت في البعض الآخر. وأما قوله "إن الشيخ الغزالي قاد مظاهرة إلى مبنى الأهرام القديم من أجل عمل "فني" لصلاح جاهين، فهذا أيضًا محض اختلاق، والذين عاشوا هذه الأيام يعرفون كيف أساء صلاح جاهين إلى الشيخ الغزالي وأسف في سخريته مما أغضب الجماهير وجعلها تخرج في مظاهرة عقب صلاة الجمعة لم يسمح لها بالسير إلا بضعة أمتار، ولم يكن للمتظاهرين علاقة بالشيخ الغزالي، بل أن يكونوا تحت قيادته. ولم تكن المظاهرة اتنصافًا للشيخ الغزالي من إسفاف صلاح جاهين فحسب، حين رسم الشيخ الغزالي يركب حمارًا ووجهه إلى خلف على هيئة من كان يطاف بهم ؟؟؟؟؟؟؟ من اللصوص والفسقة والمجرمين، كما عبث في رسمه بالعمامة (رمز الإسلام وعلماء الدين) وكتب تحت الصورة (أبو زيد الغزالي سلامة). هذا هو العمل الفني!! .. انظر إلى التزييف !! المصلون في الأزهر بقيادة الشيخ الغزالي يتظاهرون ضد عمل فني (بالبشاعة تخلف الإسلام والمسلمين وعلمائهم). لم يقل لنا لماذا سخر صلاح جاهين من الشيخ الغزالي!! لم يقل لنا: إن الشيخ الغزالي تجرأ وناقش (الزعيم) في لجنة التحضير للاتحاد القومي، وطالب بالإصلاح، ورعاية القيم والمبادئ. لقد عارض الشيخ الغزالي (الرئيس) في عنفوان سطوته، وقمع نظامه الشمولي، فسخر منه، واستهزأ به – متحلقًا النظام – صلاح جاهين .. هذه هي الحقيقة!! إن الجماهير التي غضبت للشيخ الغزالي وثارت ضد صلاح جاهين، رأت أن الشيخ الغزالي هو صوت الحق الذي ارتفع في وجه الطغيان.. هذا هو الشيخ الغزالي، وهذا هو (العمل الفني)، وهذه هي المظاهرة التي كانت تعبيرًا في واقع الأمر عن رفضها ومعارضتها للنظام الشمولي الذي يشيعه (كُتَّاب السلطة) الآن نقدًا وتجريحًا، على حين قاومه الشيخ الغزالي وحده، في عنفوانه، ثم كف عنه بعد رحيله، وانشغل بواقع آخر ومشكلات جديدة. ولكن مراسل مجلة المخابرات الأمريكية مرت على الكتابة بأسلوب الغمز والحَقْن تحت الجلد على طريقة المبشرين والمستشرقين. فانظر: جملة واحدة من كلامه تحتاج في تصويبها إلى نحو صفحة، مع التزام الإيجاز الكامل. أما الدعوة إلى المحاضرة في الجامعات الأمريكية فليست شرفًا يُباهى به، وكيف لا تدعو مراسل مجلة مخابراتها، إما عدم الحصول على التأشيرة فهذا أيضًا غير مستغرب لأمور يفهما كل لبيب. إن أمتنا الآن في حاجة إلى كل كلمة صدق، تجمع ولا تفرق، تصون ولا تبدد، فلا داعي لهذا الغمز واللمز لعلماء الأمة ورموز دينها. والله المستعان وهو الهادي إلى الصواب.
د. عبد العظيم الديب
إذن .. فهل بالدبكة تحيا الأمم؟!!
يفزعني - ويفزع كل ذي لب – أن يتحول الحوار إلى تهاتر، وإبداء الرأي إلى فرصة للمغالطة والتطاول، واستمداد الحجية من الفرقعات اللفظية، واستدرارًا للعواطف بقلب المدلولات وتحوير المفاهيم، تصورًا إلى القارئ يمكن أن يتمتع ببلاهة وغفلة تجعلانه يبتلع طعم الاستغفال والإيهام.