إذن .. فهل بالدبكة تحيا الأمم؟!!
بقلم: عبد السلام البسيوني
الأحد: 6/12/1987م
يفزعني – ويفزع كل ذي لب – أن يتحول الحوار إلى تهاتر، وإبداء الرأي إلى فرصة للمغالطة والتطاول، واستمداد الحجية من الفرقعات اللفظية، واستدرارًا للعواطف بقلب المدلولات وتحوير المفاهيم، تصورًا إلى القارئ يمكن أن يتمتع ببلاهة وغفلة تجعلانه يبتلع طعم الاستغفال والإيهام.
ويفزعني – ويفزع كل ذي لب – أن يساء الظن بالعالِم، وألا يوضع هو وفكره حيث ينبغي، خصوصًا إذا كان لا يقول إلا الخير، ولا يأمر إلا بالبر.
ويفزعني – ويفزع كل ذي لب – أن يتحول الباطل إلى حق أبلج، والقبح إلى جمال باهر، و(الدبكة) إلى جهاد يرام به استعادة البيادر وأشجار الزيتون السليبة.
وحَرك فزعي ردُّ أحد الأخوة الكرام على الدكتور عبد العظيم الديب في يوميات الراية وتحفظه على مقاله في نقاط تستحق أن نقف إزاءها عاتبين متسائلين:
لقد عاب الأخ الكريم على الدكتور تسميته (الفن الحركي) أو (التراث الحركي) أو (الدبكة الفلسطينية) رقصًا.. وهذا غريب جدًّا، فما تصنيفها يا سيدي إن لم تكن رقصًا؟!! إذا كنت تظن أن الدكتور قد جاء قولاً فريًّا فاقرأ ما كتبه الأستاذ سرحان نمر في المأثورات الشعبية العدد 3 السنة الأولى، تحت عنوان: أرشيف الفلكلور الفلسطيني، وستجده قد عدَّ (الرقص الفلسطيني) من جملة الفلكلور ولم يسمه دبكة، واقرأ دراسة الدكتور محمد علي أبو ريان في حديثه عن أشكال التراث الشعبي تجده قد عدَّ الرقص والموسيقى الشعبية فلكلورًا (ندوة التخطيط لجمع ودراسة العادات والتقاليد والمعارف الشعبية – 3، ص289)، ويمكن أن نستشهد بأكثر من ذلك لولا ضيق المقام.
سأوافق الأخ الكريم على رأيه وسأسمي الرقص دبكة جريًا على الاصطلاح الشائع الذي لا يجدر بنا أن نتشاح عليه، ولن أقول ما قاله الدكتور بـ (الرقص لا تحيا الأمم) هل بالدبكة تحيا الأمم؟! وهل يحاربنا أبناء القردة والخنازير بقذائف من الدبكة وصواريخ من الميجنا .. أم بجيوش معدة واقتصاد متين وإعلام ذكي وتحريك للقوى العالمية كلها ضد الصبيان المسلحين بالحجارة والنساء الصامدات والشباب الذي يحمل روحه على راحته؟!!
واضح من كلام الدكتور أنه لم يغمز ولم يطعن، بل أراد – لأنه أكاديمي – أن يبقى الجهاد جهادًا والرقص رقصًا، وكره أن يسفح دم المجاهدين الحقيقيين فلا يجد تقديرًا مثل التقدير الذي يناله إيقاع أرجل الدابكات والدابكين الذي ما أرهب عدوًّا ولا استعاد أرضًا ولا سطر ملحمة يخلدها التاريخ.
بل لقد رثى لجهاد شباب (في عمر الزهر) عافوا كل متع الحياة، يأكلون من حشائش الأرض يحتضنون البندقية ويأنسون إلى القنبلة، ولا تعرف آذانهم إلا صوت الرصاص، ودوي المدافع وأنين الجرحى وحشرجة الشهداء الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وعاهدوا الله تعالى أن يرووا الأرض بدمائهم، حتى تورق عزًّا وتنبت مجدًّا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
وذكر لهفته على كل ما هو فلسطيني (فالحديث عن فلسطين يجذبني ويجذب كل الجيل الذي أنا منه – جيل النكبة – ذلك الجيل الذي تفتحت مداركه أيام كان القلب خليًا والعمر نديًا، على مشروع التقسيم ومعارك 48 – 49 فعاش المأساة في قيمتها.
ورأى قوافل المتطوعين من أترابه وأقرانه، وعرف كيف أبلوا البلاء الحسن، وكيف استشهد منهم في الميدان من استشهد، وكيف كان ما كان).
إن الدكتور يا سيدي يحب فلسطين ويبارك جهاد المجاهدين – بالسلاح – شأن كل مسلم غيور على حرمات المسلمين ومقدساتهم، فماذا الاتهام؟!
إنه يكره خلط المفاهيم ولي أعناق الألفاظ واعتبار (الدبكة) النسائية بندًا من بنود الجهاد (رغم تصريحه باحتماله بقية صور الفلكلور).
إنه يغار على حرائر فلسطين وصمودهنَّ وشباب فلسطين وجهادهم من أن يلوثه (رأي فنان عابر، أو موقف سياسي شاذ) كما عبرتم.
إن المبالغة في لي المصطلحات والإغراب بها عن مراميها الصحيحة، والحكم على نوايا الناس الذين لا يعرف ما في سرائرهم إلا علاَّم الغيوب يدخل في باب التنطع الذي يهلك أصحابه .. وغفر الله لنا ولكم وللمسلمين.
مقالات صحفية أخرى
مجلة حوار
من المعروف أن أمريكا منذ أوشكت الحرب الكونية الثانية على نهايتها، بدأت تعد العدة لا لترث العدو المهزوم فحسب، بل ولترث مستعمرات حلفائها ونفوذهم حيث أدركت أن الحرب أنهكت أوروبا تمامًا غالبها ومغلوبها، ومن المعروف أيضًا أن من أهم الأدوات التي حرثت لها الأرض وهيأتها لقبول الهيمنة الأمريكية هي المؤسسات الثقافية، وأخصها دور الصحف والنشر التي أنشئت بأموال المخابرات الأمريكية، وقد نال الشرق الأوسط بعض ذلك بل أكبر نصيب من ذلك. وإن كان هذا ضربًا من الظن، والترجيح والفراسة من قبل فقد صار الآن حقيقة لم يعد أحد بقادر على الجدال فيها، بعدما أذيع تقرير اللجنة التي شكلها الكونجرس الأمريكي برئاسة السناتور "تشرش" لتقصي نشاط المخابرات الأمريكية، وبالذات في مجال دور النشر والصحف. وقد أدت هذه المؤسسات دورها في تدجين كثير من المثقفين واحتلال كثير من القيم والمفاهيم مما أدى إلى بعثرة الرؤية وتشتيت الخطى، ويذكر الجميع "دور مؤسسة فرانكلين للنشر والتوزيع" الذي كثر الحديث عنه الآن بعد فوات الأوان، ويذكر الجميع أيضًا "مجلة حوار" موضوع حديثنا. هذه المجلة التي أنشأتها المخابرات الأمريكية في بيروت، واستطاعت أن تستقطب مجموعة من الأقلام وأشباه الأقلام، ليس المهم ما يكتب الكاتب، ولكن المهم حجم الشلة التي ينتمي إليها، وإن لم يكن هو ذا شأن، ومع الأجور المرتفعة "جدًّا" والتي كانت تدفع بصفة شبه دورية مما جعل الارتباط بها يشبه الحبل السري يمثل لصاحبه شريان الحياة. لم تخف هذه المرحلة وجهها، ولا يستطيع واحد من "عملائها" أن يقول: إنه خدع فيها، ذلك أنها أعلنت عن هويتها والقيم التي تحمل لها بصراحة لا تحسد عليها، فقد كتبت في عددها الخامس الصادر في يوليو سنة 1963م تحت عنوان "بهذه القيم نؤمن" كتبت تقول: "إن الحضارة الأوروبية المنبثقة عن التقاليد اليونانية والرومانية والمسيحية ترتبط في وعينا ببعض القيم، وجماع هذه القيم يعطي صورة كاملة عن الإنسان الذي كونته هذه الحضارة. إننا نصدر هذه المجلة ونحن نطمح إلى إثارة هذه المعركة في الضمائر وتحريك القوى الثقافية والروحية في سبيل الدفاع عنها، مستمدين حيويتنا من الماضي والحاضر والجيل الصاعد الذي يحمل رسالة فنية صافية". هذه المجلة التي تعلن أنها "تؤمن بقيم الحضارة الأوروبية المسيحية، وتعمل على إثارة هذه المعركة في الضمائر، وتثبيت هذه القيم في "جيل صاعد يحمل رسالتها الفنية" ثم توقفت بعد أن أدت دورها، وبلغت رسالتها، وأعلن رسميًا عن تبعيتها للمخابرات الأمريكية. هذه قصة "حوار" وهذا تاريخها، أما رئيس تحريرها فقد كوفئ بتعيينه أستاذًا في إحدى الجامعات الأمريكية. أما مراسلها في القاهرة فقد عُيِّن محررًا في مجلة الطليعة "اليسارية" التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام في ذلك الوقت. من مدرسة "حوار" ومن العجيب أن بعض هؤلاء الأذكياء يستغلون آفة النسيان عند القراء، وانشغال من لم ينس عن تتبع كلامهم والتعقيب عليهم، فيدعون عنتريات لا أصل لها، ويدحرجون أكاذيب وافتراءات ما أنزل الله بها من سلطان، وبعض هذه الافتراءات مما يجرمه القانون، ويدخل تحت إثارة الفتنة الطائفية من مثل قول المراسل السابق لمجلة حوار في بعض مقالاته: "واشتد الصراع حتى قتل بطرس غالي" أو نحو هذه العبارة مما يوحي بأن مقتل بطرس غالي كان على "الهوية" وهو يعلم وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ يعلم لماذا قتل بطرس غالي "ولا نريد أن ننكأ الجراح" فلم يكن بطرس غالي وحده هدفًا للاغتيال، وإنما كان معه أكثر من عشرة نجحت محاولات الاغتيال في بعضهم، وفشلت في البعض الآخر. وأما قوله "إن الشيخ الغزالي قاد مظاهرة إلى مبنى الأهرام القديم من أجل عمل "فني" لصلاح جاهين، فهذا أيضًا محض اختلاق، والذين عاشوا هذه الأيام يعرفون كيف أساء صلاح جاهين إلى الشيخ الغزالي وأسف في سخريته مما أغضب الجماهير وجعلها تخرج في مظاهرة عقب صلاة الجمعة لم يسمح لها بالسير إلا بضعة أمتار، ولم يكن للمتظاهرين علاقة بالشيخ الغزالي، بل أن يكونوا تحت قيادته. ولم تكن المظاهرة اتنصافًا للشيخ الغزالي من إسفاف صلاح جاهين فحسب، حين رسم الشيخ الغزالي يركب حمارًا ووجهه إلى خلف على هيئة من كان يطاف بهم ؟؟؟؟؟؟؟ من اللصوص والفسقة والمجرمين، كما عبث في رسمه بالعمامة (رمز الإسلام وعلماء الدين) وكتب تحت الصورة (أبو زيد الغزالي سلامة). هذا هو العمل الفني!! .. انظر إلى التزييف !! المصلون في الأزهر بقيادة الشيخ الغزالي يتظاهرون ضد عمل فني (بالبشاعة تخلف الإسلام والمسلمين وعلمائهم). لم يقل لنا لماذا سخر صلاح جاهين من الشيخ الغزالي!! لم يقل لنا: إن الشيخ الغزالي تجرأ وناقش (الزعيم) في لجنة التحضير للاتحاد القومي، وطالب بالإصلاح، ورعاية القيم والمبادئ. لقد عارض الشيخ الغزالي (الرئيس) في عنفوان سطوته، وقمع نظامه الشمولي، فسخر منه، واستهزأ به – متحلقًا النظام – صلاح جاهين .. هذه هي الحقيقة!! إن الجماهير التي غضبت للشيخ الغزالي وثارت ضد صلاح جاهين، رأت أن الشيخ الغزالي هو صوت الحق الذي ارتفع في وجه الطغيان.. هذا هو الشيخ الغزالي، وهذا هو (العمل الفني)، وهذه هي المظاهرة التي كانت تعبيرًا في واقع الأمر عن رفضها ومعارضتها للنظام الشمولي الذي يشيعه (كُتَّاب السلطة) الآن نقدًا وتجريحًا، على حين قاومه الشيخ الغزالي وحده، في عنفوانه، ثم كف عنه بعد رحيله، وانشغل بواقع آخر ومشكلات جديدة. ولكن مراسل مجلة المخابرات الأمريكية مرت على الكتابة بأسلوب الغمز والحَقْن تحت الجلد على طريقة المبشرين والمستشرقين. فانظر: جملة واحدة من كلامه تحتاج في تصويبها إلى نحو صفحة، مع التزام الإيجاز الكامل. أما الدعوة إلى المحاضرة في الجامعات الأمريكية فليست شرفًا يُباهى به، وكيف لا تدعو مراسل مجلة مخابراتها، إما عدم الحصول على التأشيرة فهذا أيضًا غير مستغرب لأمور يفهما كل لبيب. إن أمتنا الآن في حاجة إلى كل كلمة صدق، تجمع ولا تفرق، تصون ولا تبدد، فلا داعي لهذا الغمز واللمز لعلماء الأمة ورموز دينها. والله المستعان وهو الهادي إلى الصواب.
د. عبد العظيم الديب
يوميات الراية “أعارضك ولكني أحبك”
كل من يكتبون أو جلهم يصرخون .. لا أحد يهمس .. ولا أحد يبدو مبتسمًا أو منبسطًا في كتابته أو حتى في قوله غير المكتوب. لا تقرأ إلا عراكًا ولا تقرأ إلا صراخًا وهجومًا. هذا هو الأسلوب السائد بين كتّاب العربية، أسلوب محاولة فرض الآراء لا عرضها.