الجنوب السودان .. الانفصال القادم


الذين يقرءون التاريخ بأثر رجعي 16/2/1992م
هكذا عرف العالم مناطق الجنوب
جريدة الراية – بقلم: بابكر عثمان
ظلت قضية جنوب السودان تراوح مكانها منذ استقلال السودان عام 1956م وكان الجهل بالمجريات العامة في هذا الشأن هو السمة الغالبة سواء في الجانب السوداني أو الجانب الجنوبي .. واتسم موضوع الأزمة بالتعقيد الشديد، ونعلم جميعًا “سودانيين وجنوبيين” أن هناك حساسية بالغة حين الحديث عن الانفصال كواحد من الحلول التي يمكن طرحها.
ومن خلال المعطيات والمؤشرات في الساحة السودانية والعالمية أصبح الحديث عن انفصال الجنوب أمرًا لا يسبب حرجًا لأي طرف معني بالأزمة، ولأول مرة أصبحت الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تقود حرب عصابات منذ ثماني سنوات تتحدث عن إمكانية ذلك بأسلوب يقرب إلى الصراحة أحيانًا.
فكرة هذا الكتاب تنطلق من قاعدة أن الصراحة في طرح الخيارات المتاحة هي أفضل الوسائل للوصول إلى رأي عام يدفع في طريق الحل الجذري والشامل.
وعندما يبشر الكتاب بالانفصال فإن هنالك الكثير من المؤشرات قد تم رصدها وتحليلها. وليس هذا فقط، بل إن العودة إلى استقراء التاريخ كان أفضل معين يمكن الغرف منه لاستجلاء الحقائق وتدعيم وجهات النظر.
هنالك حقائق تم إبرازها ولها أهمية كبيرة في فهم جذور النزاع منها أولاً: أن العودة إلى التاريخ القريب وخاصة في الربيع الأخير من القرن الماضي 1870 – 1898م أكدته أن عددًا من التصورات أدت إلى نتائج خاطئة، إضافة إلى أن هناك جهات أجنبية خططت ونفذت استراتيجياتها في المنطقة الشمالية لمنابع النيل، وكان من مصلحتها أن تتبع بعض هذه الأقاليم إلى السودان.
ثانيًا: من المؤكد أن شعب الجنوب تم إهمال رأيه على مدى قرن كامل منذ أن دخلت منطقة طلائع الاستعمار ولم يتم استفتاؤه حلول مستقبله كما لم يمنح حق تقرير المصير وتم تجاهل رغباته التي عبر عنها بعض أبنائه بشتى الوسائل، بل إن أولئك الذين تولوا حكمه على مدى هذا القرن (1870 – 1989) حاولوا استمرار طمس هويته وإنكار حقوقه في محاولاتهم لإخضاعه.
ثالثًا: أثبتت التجارب وقد رصد الكتاب بعضها أن إمكانية التعايش بين الشعبين في ظل الصيغة الراهنة صعبة إن لم تكن معدومة، فقد تبادل الشعبان تدبير المذابح إضافة إلى إشعال حرب مستمرة منذ الاستقلال عام 1956م.
فهل هنالك إمكانية للتوصل إلى حل ناجز لنبدأ القصة من بدايتها ونعود إلى القرن الماضي، فقد تمكن قائدان صغيران هما (إسماعيل باشا) و(محمد الدفتردار) من التوغل بجيشهما الهزيل والممزق إلى عمق السودان وسيطرا على مملكة سنار وملكة المسبعات كل على حدة في ظرف سنة واحدة (1820 – 1821م). وإذا اعتبرنا أن التوسع الجغرافي كان الهدف الأهم بالنسبة لمصر من غزوها للسودان، فإن بعض الأهداف الحيوية الأخرى رؤى في ذلك الحين أنها عاجلة مثل جلب الرقيق أو التنقيب عن الذهب. وهذه المهمات شرع إسماعيل باشا في تنفيذها بمجرد استتباب الأمن في المناطق التي أخضعها. ثم قاد جيشًا صغيرًا بنفسه وحاول التوغل إلى مناطق القبائل الجنوبية لجلب الرقيق، ولكنه فشل في هذه المهمة فشلاً ذريعًا لأن هذا التوغل تطلب إمكانيات أكبر مما هي متاحة، ومن الجهة الثانية عرف بمجرد مغادرته إلى المناطق جنوب كوستي أن استتباب الأمن في غيابه مجرد خرافة لأن الكثير من الاضطرابات حدثت في مدني وسنار مما اضطره للعودة لقمعها.
وعندما هم بالعودة إلى مصر بعد سنتين من فتحه للسودان لم يكن ما أرسله من رقيق تجاوز رقم الخمسمائة كما فشل في الحصول على مبتغاه من الذهب.
الملفت للنظر أن محمد علي باشا لم يأمر ابنه باسترقاق أهل الشمال بعد السيطرة على مناطقهم وممالكهم وفهم إسماعيل أن الأمر بإرسال الرجال القصد منه استرقاق الزنوج لذلك لم يفكر إلا في غزو مناطقهم جنوب كوستي التي لم تكن في وقت من الأوقات خاضعة للممالك السودانية.
ويعتبر من ناحية تاريخية أن فتح السودان قد فتح الباب على مصراعيه لحملات لطب الرقيق التي بدأت تغزو الجنوب وقادها مصريون وسودانيون وأوروبيون، وقدر عدد النخاسة الذين يعملون في هذه المهنة عام 1869م بحوالي 15 ألف رجل.
وبعد أن استتب الأمر للمصريين في السودان أحيوا حلمهم القديم للسطيرة على منابع النيل، وقد شجع محمد علي باشا الدراسات التي قام بها الأوروبيون في هذا الصدد، وفيما بعد قام صمويل بيكر بتتبع مجرى نهر النيل الأزرق إلى منابعه في المرتفعات الأثيوبية بتشجيع من مصر، ورغم ذلك كانت منطقة جنوب كوستي غير معروفة على وجه اليقين، فحملات اكتشاف منابع النيل انطلقت من شرق أفريقيا في الستينات من ذلك القرن وقادها أوروبيون نذكر منهم “بيرتون” ، و“سبيك” و“ليفنجستون” من بريطانيا و“ستانلي” من الولايات المتحدة، والأخير كان يعمل صحفيًا ذهب إلى أفريقيا للبحث عن ليفجستون الذي اختفى وأصبحت رحلته، ثم انقطاع أخباره مصدر إثارة صحفية وألهب مشاعر الأوروبيين، وفي أثناء تجوله عثر “ستانلي” على البحيرة التي ينبع منها نهر النيجر وسميت باسمه، كما عثر على “ليفنجستون” الذي كان مريضًا بالملاريا حينها وسط قبلية متوحشة هناك، وهو في الأصل يعمل مبشرًا وكان البحث عن المنابع أمرًا حيويًا لأنها الوحيدة التي ظلت مجهولة حتى ذلك الوقت، ومعظم الرحلات مولتها الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.
ومع نهاية عقد الستينات تم اكتشاف كل المنابع ودخل الرجل الأبيض إلى المنطقة لأول مرة ولكن كانت هنالك منطقة مجهولة تقع بين المنابع وجنوب كوستي وتسكنها قبائل مجهولة، إضافة إلى ذلك كانت مرتعًا خصبًا لتجارة الرقيق.
بيكر يفتح الجنوب:
في القرن التاسع عشر وظفت بريطانيا قدراتها العسكرية والسياسية لمحاربة تجارة الرقيق، وإذا كان الغزو العسكري يهدف في نظر دول أوروبية كثيرة مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا إلى التوسع الجغرافي واستغلال الثروات والسيطرة على الشعوب ونشر الحضارة فإن بريطانيا أضافت سببًا آخر هو محاربة تجارة الرقيق.
ولهذا السبب سيطرت على بعض المناطق والموانئ ومنها ميناء ممبسا على المحيط الهندي وكان منفذًا حيويًا لتصدير الرقيق الذي يستجلب من المناطق القريبة من منابع النيل، ونجحت المهمة البريطانية ولكن كان هنالك رقيق يصطاد من المناطق الشمالية للمنابع ويصدر إلى مصر وتورط في هذه المهنة حكام انتدبتهم مصر لحكم السودان، فتوجب العمل على وقف هذا النزيف البشري.
كانت مصر في الستينات من ذلك القرن يحكمها رجل تعلم في أوروبا هو الخديوي إسماعيل الذي وصف بأنه كان “مستنيرًا ويمتاز بكونه من رجال الأعمال الذين يفضلون الإنتاج وتضاعف رأس المال على الملكية العقارية الثابتة للأرض أو البهائم أو الرجال” .. هذا الحاكم حاول إحياء الحلم المصري القديم بالتوسع في إفريقيا فوضع خطة لذلك.
وهنالك سبب آخر ففي ذلك الوقت تورط إسماعيل في أزمات مالية خطيرة بسبب بذخة واستهتاره لذلك وصلت ديونه إلى ما يقرب من ستين مليون جنيه.
وكان يرغب في تلقي المزيد من العون المالي والفني من أوروبا إضافة إلى رغبته في الاحتفاظ بعلاقات جيدة معها، فأصبح مستعدًا لتنفيذ كل الأوامر الصادرة إليه، وهو يعرف بثقافته الواسعة وباطلاعه المستمر وبتتبعه للتطورات السياسية الجارية أن تجارة الرقيق أصبحت مرفوضة على نطاق واسع وأن الحكومة البريطانية قررت تشديد الحرب عليها في جميع أنحاء العالم وهو يعلم علم اليقين أن رجاله في الخرطوم متورطون بشكل من الأشكال في ممارستها وأن ذلك ارتبط بسمعة حكمه.
كان أنسب رجل يقوم بمهمة ضم المناطق الجنوبية حتى منابع النيل إلى الامبراطورية المصرية ويعمل على إنهاء تجارة الرقيق هو صمويل بيكر، ذلك الإنجليزي الذي ارتبط اسمه باكتشاف بحيرة “البيرت” كما سبق له القيام بزيارة إلى السودان مع زوجته في طريقه إلى اكتشاف بحيرة “تانا” في المرتفعات الأثيوبية أتاحت له معرفته باللغة العربية أن يعود إلى منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى عام 1869م مترجمًا لولي العهد البريطاني الذي يزور مصر للمشاركة في احتفالات افتتاح قناة السويس في ذلك العام. وأثناء الاحتفال انتحى به الخديوي إسماعيل جانبًا وعرض عليه مهمة قادة حملة عسكرية إلى مناطق الجنوب لإخضاعها للحكم المصري والقضاء على تجارة الرقيق. ولم يتردد سير بيكر في القبول بهذه المهمة الحيوية، فالمبلغ الذي عرض عليه لا يحلم به أحد في ذلك الزمان فقد عرض عليه توقيع عقد بمبلغ 40 ألف جنيه استرليني لمدة أربع سنوات وتلبية جميع طلباته من الجنوب والعتاد والتسهيلات السياسية.
ووصف الآن مورهيد الذي وضع كتابًا يحمل اسم “النيل الأبيض” هذه الشروط بأنها “سخية” فهو سيصبح باشا وميجر جنرال ويختار أركان حربه أما القوة التي يقودها فتتالف من 1700 رجل وكان مطلق اليد في شراء العتاد لهم. ويضيف مورهيد: “لو أن رجلاً غير بيكر يفوقه في الفكر السياسي صادف هذا العرض لكان من المحتمل أن ينظر إلى هذه الشروط بشيء من التوجس“.
التوغل جنوبـًا:
ولنعد إلى بيكر الذي اختار جنوده من مصر والسودان ومعظمهم كانوا نزلاء في السجون في البلدين وتعتبر المشاركة في هذه الحملة نوعًا من الحرية بالنسبة لهم.
وتسلم مهامه رسميًا عندما أصدر الخديوي فرمان أعلن فيه “أنه نظرًا للحالة الهمجية السائدة بين القبائل القاطنة في حوض نهر النيل ونظرًا لأن هذه النواحي المذكورة ليس بها حكومة ولا قوانين ولا أمن ولأن الشرائع الإنسانية تفرض منع النخاسة والقضاء على القائمين بها والمنتشرين بكثرة في تلك النواحي ولأن تأسيس تجارة شرعية في هذه النواحي يعتبر خطوة واسعة في سبيل نشر المدنية ويفتح طريق الاتصال بالبحيرات الكبرى الواقعة في خط الاستواء بواسطة المراكب البخارية، ويساعد على إقامة حكومة ثابتة لذلك قررت الخديوية إدماج هذه المناطق“.
وبعد عام – أي في فبراير 1970م – كان صمويل بيكر على أهبة الاستعداد للانطلاق إلى أعالي النيل من الخرطوم يعاونه عشرة من الأوروبيين أصبح لبعضهم دور هام في تاريخ المنطقة فيما بعد، وكانت ليدي بيكر هي المرأة البيضاء الوحيدة التي رافقت الحملة والتي قدر لها فيما بعد أن تُصبح أول امرأة بيضاء تدخل هذه المنطقة.
إنها رحلة شاقة تلك التي قطعتها الحملة حتى وصلت إلى غندكرو في مايو 1871م بعد عام كامل من المشاق والمتاعب، فالسدود كانت أكبر عائق واجههم ولم تكن توجد مقاومة من الجنوبيين في باديء الأمر.
وفي غندكرو والتي وجدت بها بعثة نمساوية للتبشير نظم بيكر عرضًا لألف ومائتين من جنوده في أزياء عسكرية نظيفة ورفع العلم العثماني على صار ارتفاعه ثمانون قدمًا وأعلن بصوت مهيب ضم البلاد التي حوله إلى مصر، فأصبحت تعرف باسم “مديرية خط الاستواء” وفي هذا الوقت لم يكمن هنالك من يسجل المنظر للعالم الخارجي ولا من يشاهده سوى رجال قبيلة الباربا “العرايا الذين لم يفهموا شيئًا مما كان يجري” – حسب وصف مورهيد – وأخذوا يشنون غارات ليلية على المعسكر.
ولم يتوقف بيكر عند منطقة غندكرو بل تقدم جنوبًا في اتجاه بحيرة فكتوريا، ولكن قلة الجنود ووعورة الأرض وعداء الأهالي منعت تحقيق أهدافه كاملة، ورغم ذلك وصل إلى بلاد (الأونيورو) – أوغندا الحالية – وكانت عاصمتها مازندي على ضفاف بحيرة “البيرت” وبيكر يعرف هذه المناطق حق المعرفة، فقد سبق له زيارتها قبل أقل من عشر سنوات وكان آنذاك يعمل لحساب الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية.
وعند وصوله إلى مازندي والتي وجد فيها استقبالاً جيدًا من ملكها “كاباريجا” وتحت تأثير هذا الاستقبال رفع العلم المصري وأعلن ضم هذه الأراضي للخديوية، وقال لكاباريجا ذلك الشاب المستهتر قليل الخبرة أنه جاء إلى هنا باسم الصداقة ، غير أن هذه الحملة بعين الشك وبعد فترة لاحظ بيكر أن أسلوبه تغير وأنه على وشك الهجوم على معسكره، فجمع جنوده واستعد للمعركة، وفي الوقت المحدد أصدر أوامره بإحراق المدينة، ثم غادرها بعناء شديد مخلفًا وراءه الحرائق والقتلى والخراب.
وكان قبلها في غندكرو ارتكب عددًا من الفظائع التي لم يجد لها المؤرخون تبريرًا سوى أنها ضرورة للبقاء في مناطق متوحشة مثل الاستوائية ويوغندا.
الإرهاب ضرورة استعمارية:
وخلال عامين وقبل أن تنتهي مدة العقد أشعل بيكر حربًا في المنطقة لم يجد مؤرخ مثل آلان مورهيد وصفًا لها أفضل من القول “إنها قصة حرب استعمارية” وقال في تبرير ذلك “أنه من عدم الإنصاف ومن الانسياق وراء العاطفة أن ننظر إلى الاستعمار على هذا الضوء ولا سيما في أواسط أفريقيا فقد كان ثمة منطقة شاسعة تركت دون أن تمس عبر القرون ولعله من الخير أن تترك كذلك فإن القبائل المحلية كانت صالحة برغم ما فيها من وحشية وآلام وعدم طمأنينة ولكنها في الواقعه لم تترك وشأنها، وكأي مؤرخ غربي حاول مورهيد التحامل على العرب بقوله “إن التجار العرب نفذوا إليها دون غرض سوى الكسب الشخصي“.
ومما لا يستطيع المؤرخ نفيه أن هنالك تجارًا عربًا من السودان أو عربًا من الجزيرة العربية دخلوا المنطقة بدافع الحصول على العاج وسن الفيل والعسل وبقية المنتجات المحلية الأخرى، وكان البعض القليل منهم شارك في حملات جلب الرقيق، ولكنهم جميعًا لم يستعملوا لتحقيق هذه الأهداف، السلاح لإرهاب الأهالي أو إجبارهم على التعاون، وقصة الزبير باشا في بحر الغزال وأبو السعود في الاستوائية خير مثال مما سيرد ذكره.
وأبو السعود برز اسمه كواحد في أولئك الذين وضعوا العراقيل أمام بيكر في الاستوائية، وذلك من خلال تأليبه الأهالي ضد الحملة وتصويرها تصويرًا بشعًا، فأولئك العرايا الذين وقفوا ينتظرون إلى جنود بيكر بزيهم العسكري الموحد والنظيف نظرة استغراب ودهشة وهو يستعرضهم في غندكرو صبيحة اليوم التالي لوصوله، هؤلاء العرايا أنفسهم أقنعهم أبو السعود بعدم بيع الحملة ما تحتاجه من طعام ومنتجات محلية أخرى.
وبعد أيام من الوصول إلى قوات تعدادها حوالي 1700 جندي، فإذا بـ 1200 جندي منهم ينضمون إلى أبي السعود ويغادرون المنطقة هاربين إلى الخرطوم وتضافرت العوامل الطبيعية والبشرية ضد بيكر، ذلك الرجل الذي كان في دخيلته حكيمًا وقويًا وصبورًا حسبما وصفه مورهيد .. وأضاف “لكن حظه العاثر قاده إلى عملية الاستعمار في أفريقيا الوسطى تحت رعاية الخديوي إسماعيل، الذي كانت تحيط بأغراضه الشبهات وفي أقسى وأوعر لحظاتها، فكان على حملته أن تقاتل دفاعًا عن حياتها ولو لم يستخدم أساليب الشدة لما فشل قط، بل مات.. فهو قد صد القبائل عند غندكرو ثم حاربها حينما امتنعت عن بيعه الطعام وغزا قراها وأخذ قطعان الماشية بالقوة.
وخلال السنتين اللتين قضاهما في المنطقة أنشأ ثلاث محلات في غندكرو وفاتيكو وفويرا، وتعتبر الحملة رغم ذلك فاشلة بالنظر إلى أن عملية الفتح والضم لم تتم، كما كان مقدرًا لها، وعاد إلى الخرطوم ولكن قبل أن يصلها بعث أمامه بتلغراف يبرق “ضرورة القبض على أبي السعود وتقديمه للمحاكمة لأنه السبب في كل هذه العراقيل والاعتداءات المتكررة من الأهالي“.
هذه الحملة كلفت ثلاثمائة ألف جنيه مصري، ولنقرأ الآن في يوميات بيكر التي سجل فيها قبل أن يغادر المنطقة نهائيًا في مارس 1873م وهو يتأهب للرحيل: “وأخيرًا انهزمت كل معارضة وانصاعت الكراهية والتمرد للنظام وبسطت حكومة راعية حمايتها على الأراضي التي كانت من قبل ميدانًا للفوضى وتجارة الرقيق، فقد طهر النيل الأبيض مسافة 1600 ميل من الخرطوم إلى أفريقيا الوسطى وإنجاب كل غيم وانقضت مدة بعثتي في سلام وبهذه النتيجة نشدت متواضعًا بركة الرب“.
ولكن هل فعلاً بسطت الحكومة سيطرتها الكاملة على هذه المنطقة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكشف بوضوح عما إذا كان مقدرًا لهذه المنطقة في المستقبل أن تدين إلى حكم مصري، فهو غادر المنطقة والعلم المصري يرفرف على ثلاثة أكواخ حقيرة في غندكرو وفاتيكو وفويرا، ولكن نفوذ الحكومة لم يكن يتعدى أميالاً بسيطة من تلك المحطات، وترك محمد رؤوف بك مديرًا لها وهو مصري رافقه في فتوحاته.
في الحلقة القادمة نواصل الرحلة إلى الجنوب لنرى ماذا فعل تشارلس غردون هناك.
مقالات سياسية أخرى
الحرب في جنوب السودان .. هل بدأ التدويل؟!
هل يستطيع نظام الجبهة الإسلامية الحاكم في الخرطوم القضاء على الحركة الشعبية لتحرير السودان؟ هذا هو السؤال الذي بدأ يسيطر على معظم تحليلات المراقبين السياسيين الذين بدأوا في الاهتمام بما يدور في الساحة السودانية إثر أنباء عن معارك ضارية اندلعت في بداية هذا الشهر بين الفريقين بين نفيها وإثباتها، أكدت أوساط القيادة الشرعية للقوات المسلحة المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي المعارضة صحة الأنباء وقالت أنها دخلت أسبوعها الثاني.
وتؤكد هذه الأوساط أيضًا أن المعارك الحالية بدأت في أعقاب عدة دلائل من بينها الزيارة المفاجئة التي قام بها الفريق عمر البشير رئيس المجلس العسكري إلى مدينة جوبا يومي 18 19 فبراير الماضي. وكان المذكور قد أشار في خطاب له عن قرب نهاية التمرد كما يسميه، وأشار أيضًا إلى أن الحكومة ستقوم بوضع خطة لتعمير الجنوب. علمًا بأن ما جاء في خطابه هذا ظل يردده منذ العام الأول لانقلابه، وهو ما يدخل صيغة التفاؤل السابق في بند الاستهلاك السياسي.
وتستدل أوساط القيادة الشرعية أيضًا بالمعلومات العسكرية بخطة النظام والتي تشربت قبيل بدء المعارك وكشف عنها التجمع الوطني في بيان له صدر في القاهرة. وكان البيان قد حذر من خطورة تدويل المشكلة، وقال إن المعلومات المتوافرة لديه تؤكد مسعى النظام الديكتاتوري الحاكم لتحقيق هذا الغرض. وفي إطار الخطة العسكرية كشف البيان إلى أن النظام يسعى إلى تصعيد القتال انطلاقًا من خمسة محاور، الأول: الدمازين – المابان – فشلا – الناصر – كبويتا، والمحور الثاني كوستي – العباسية – رشاد – القردود. والمحور الثالث: الرنك – ملكال – بور - . والمحور الرابع: جوبا – ليريا – توريت – نمولي. والمحور الخامس: واد – طميره – يامبيو – غولي. وأشار البيان إلى ما أسماه بالخطوات الأولى للتدويل، وأكد أنه تم الاتفاق أثناء زيارة الرئيس الإيراني علي هاشمي رفسنجاني للخرطوم ديسمبر الماضي على استقدام قوات إيرانية بلغت نحو ثمانية آلاف ضابط وجندي نشروا فورًا على أطراف مدينة جوبا المحاصرة منذ عدة أشهر كذلك في المنطقة الواقعة بين مدينتي كوستي وملكال، وتبع ذلك نشر قطع من البحرية الإيرانية في البحر، وهي التي شاركت في مناورات عسكرية مع قطع سودانية وأريترية أواخر العام الماضي وبقيت منذ ذلك الوقت في المياه الإقليمية السودانية عند ميناء بورتسودان ومرفأ ترنكات.
د. عبد العظيم الديب
إلى عابد الشيخ وإلى كل الشهداء
بالرغم مما هو كائن، وبالرغم مما هو محيطٌ بنا من همّ، بل امتهان وهوان، في بورما، في البوسنة والهرسك، في ألبانيا، في سيلان ... بل في عمق ديار الإسلام، بالرغم من كل ذلك فمن حقنا أن نرفع رأسنا لحظةً، وأن نرنو إلى (كابول) مهللين مكبرين، حامدين شاكرين، من حقنا أن نستعذب طعم النصر الذي طالما حُرمناه، وأن نستروح أريج مجدٍ نسيناه، سائلين الله سبحانه أن يتم نعمته بجمع الكلمة، ووحدة الصف، وأن ينجح إخوتنا هناك في معركة السلم، كما نجحوا في معركة الجهاد، والفداء، والاستشهاد. ومن حق شهدائنا المليون أن نذكرهم اليوم، ونحن نرفع راية النصر، فالواقع أنها ما أورقت وارتفعت إلا بالدماء الطاهرة التي روّتها. رحم الله شهدائنا. رحم الله عابد الشيخ.. ذلك الشهيد الذي كتب إلينا في آخر رسالة له في الميدان قبل أن يستشهد بأيام، قائلاً بالحرف الواحد: "... الساحة تبشر بالخير، ولن يحس بآثار هذه البشارة إلا من يخرج نفسه من دائرة الماديات، ويدرك بيقين أن الله عز وجل وحده هو المتصرف بأمر هذا الكون، فينفذ أمر الله، ويتبع قوانينه وشرعه، وإن وقف العالم كله بوجهه يريد أن يثنيه عن ذلك ...". هذه من كلمات الشهيد في آخر رسالة، وحقًّا لقد قال وصدق، قال وفعل، في عصرٍ كثر فيه القائلون وقلَّ العاملون. نعم لقد خرج (عابد) من دائرة الماديات، على قوة جاذبيتها، كان شابًا في عنفوان الشباب، طموحًا منفتحًا للحياة، صاحب مواهب خارقة، تؤهله لتحقيق كل ما يصبو إليه، ذا قدرات تفتح له مغاليق الأبواب، كان بحق كفاءة نادرة، بل جملة كفاءات. كان نادرة في الذكاء والقدرات الدراسية، كان نادرًا في خلقه وصفاته، أحبه كل من عرفه من كبير وصغير، كان الشباب ينجذبون إليه ويلتفون حوله في جدهم ولهوهم، وحينما كان في عملٍ كان النجاح وكان التوفيق. لانت له الدنيا ففتحت أمامه الآفاق، الدراسات العليا (ماجستير – دكتوراه)، نال الوظيفة، ووفق للزوجة، ورزق الولد، فتحت له الحياة ذراعيها تستقبله، آملة واعدة باسمه. ولكن (أبا مصعب) لم ينخدع كما انخدعت أمةٌ بأسرها، فانخلع من دنيانا بقوة لا يملكها إلا بهبة من الله. خرج أبو مصعب من دائرة الماديات فانتصر على جاذبية الطين، وشعر بحق أن كل ما فوق التراب تراب. اتجه إلى الله صادقًا مخلصًا يطلب الشهادة، فهيأها له، وهبه إياها. كان مما قال في رسالته الأخيرة ذاتها: " ... إن حرقة القلب والروح تزداد يومًا بعد يوم، وأصبحتُ على يقين بأن المسلم لن يجد الراحة، ولا الاستقرار، إلا حينما يتغمده الله برحمته، ويدخل الجنة...". هنيئًا لك أبا مصعب !! كان هذا أملك، وعلم الله منك صدق النية، فاستجاب لك، فاهنأ بها شهادة صادقة، تحيا بها في علِّين {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}{آل عمران:169} {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}{البقرة:154} . أما نحن الذين قعدنا من ورائكم أيها المجاهدون، أيها الشهداء، فعسى الله أن يغفر لنا عجزنا وقعودنا، ويتقبل منا دعاءنا واستغفارنا وعذرنا، إنه غفور رحيم.. عبد العظيم محمود الديب واحد من القاعدين.
د. عبد العظيم الديب
إريتريا .. المأساة والتاريخ
تمهيد لابد منه:عجيب أن يظل حصار الصمت أربعة عشر عامًا كاملة.. نعم أربعة عشر عامًا من المعاناة الصامدة، وجاء الصمت الكثيف يلف الثورة الإريترية، فلم نسمع من محنة إريتريا وثورتها بوضوح إلا بعد أربعة عشر عامًا من بدئها.إريتريا المأساة والتاريخ:أربعة عشر عامًا وثلاثة ملايين مسلم يعانون التجويع والتنكيل والتشريد والإبادة بصورة تعيد إلى الأذهان محاكم التفتيش وويلاتها.وليست هذه هي المأساة، فإريتريا ليست بدعًا في ذلك، ففي كثير من أنحاء العالم يقاسي المسلمون ما يقاسيه أهل إريتريا، نعم ليست المأساة فيما يعانيه مسلموا إريتريا، فهذا قدر المسلمين، وتلك حالهم من يوم أن اصطلحت عليهم كل المذاهب، وتعاونت عليهم كل الفلسفات، حرب في كل مكان، وصراع في كل مجال، لعل أيسره مجال النار والدم، ولكن المأساة بالمحنة التي يتعرض لها إخوتنا في إريتريا والمأساة أن تظل أربعة عشر عامًا ولا تعرف، والذين يعرفون لا يقولون لأنهم إذا قالوا لا يُصدَّقون، المأسأة الحقة هي في جهل المسلمين بحقيقة ما يراد بهم أو جهل بعضهم بما يراد للبعض الآخر، واسأل معي: كم من المسلمين يحيطون بأبعاد قضية كشمير، أو شرق باكستان، أو مسلمي الهند، أو مسلمو الاتحاد السوفيتي أو المسلمين بالصين، أو بقضية قبرص أو ألبانيا أو الظبين أو مسلمي الحبشة بعامة ثم مسلمي إريتريا.نعم المأساة في هذا الجهل الصامت، أو قل في هذه المجاملة التي أصبح المسلمون يتفنون فنونها، ويروضون أنفسهم عليها عجزًا وخوفًا، فمن أجل مجاملة الامبراطور العجوز هيلاسي ضرب الحجر اللعين على أخبار الثورة الإريترية، نعم من أجل (أسد يهودا) سليل الأسر السليمانية، قام حاجز الصمت الكئيب حول المحنة الإريترية، ولولا أن سقط القناع عن وجه الإمبراطور لما أتيح لنا أن نعرف شيئًا من أخبار إريتريا.وقد لا يغن التعليق على المأساة كثيرًا، فلندع مأساة الصمت أو مأساة التجهيل، ولنتكلم عن مأساة إريتريا، ولنحاول أن نحيط بأبعادها التاريخية وأهدافها الاستراتيجية.وربما كان من المناسب ونحن نتحدث عن إريتريا أن نلم سريعًا بكلمة عن الحبشة صانعة المأساة.الحبشة:ولو سألت أي مثقف أو أي متعلم: ماذا تعرف عن الحبشة؟ لكان جواب معظمهم هي أقدم الدول المسيحية في إفريقيا وأعرقها، وهي جامعة المسيحية في إفريقيا، وهي أقدم الدول المستقلة في إفريقيا، وهي راعية منظمة الوحدة الإفريقية، وصاحبة فكرتها. هذا ما يعرفه عامة المثقفين والمتعلمين عن الحبشة، ولكن أين الحقيقة؟لا نعرف مثلاً أن الحبشة أخضعت مدة ممالك إسلامية وضمتها إلى أملاكها بالقوة، وأن نسبة المسلمين فيها تصل إلى نحو 75%، وأن الحبشة ضالعة مع كل القوى الاستعمارية العالمية والمحلية، وأن علاقتها بمنظمة الوحدة الإفريقية كانت محاولة من الإمبراطور لاحتواء المنظمة وفرض سيطرته عليها(1).إريتريـــــــــا:كلمة إريتريا نسبة إلى بحر (إريتريا)، وهي التسمية اليونانية للبحر الأحمر، وكلمة (أرتوس) باليونانية معناها الأحمر. وتمثل إريتريا شكلاً مثلثًا تقريبًا مساحته 125000كم مربع، ضلعه شاطئ البحر الأحمر بطول 1000كم، ورأسه السودان الفرنسي، وقاعدته الحدود السودانية الإريترية عند اتصاله بمديرية كسلا، وضلعه الآخر الحدود الإريترية الأثيوبية، فإريتريا في الواقع تمثل شريطًا على ساحل البحر الأحمر بطول ألف كيلومتر تبدأ من باب المندب جنوبًا.ومن أهم مدن إريتريا ميناء (مصوع) – ومعناه مكان النداء – وقد اشتقت هذه التسمية من فعل (صوع) بلغة النيجري – أي نادى – وذلك لأن الواقف على الشاطئ يمكن أن ينادي الواقف في الجزين الموازية.وعاصمتها (أسمرا) وجوها جميل معتدل، جاف، يميل إلى البرودة طوال السنة نظرًا لارتفاعها عن سطح البحر، ومبانيها منسقة وجميلة ومعنى اسمها: الغابة المزهرة، لنضرتها وكثرة زهورها.عصب: أما عصب فمن المواني الهامة، وترجع أهميتها إلى قربها من عدن والجزيرة العربية.أما مدينة كبرين فقد كانت حصنًا مصريًا قديمًا ترتفع فوق سطح البحر 1400 متر.ثروة إريتريا: إريتريا بلد غني من الناحية الزراعية، تزرع الحمضيات والفواكه بأنواعها، وكذلك القمح والشعير، والقطن والسمسم، والفول السوداني، وشتى أنواع الحبوب، بالإضافة إلى غاباتها المنتشرة التي يستفاد من أخشابها، وكذلك نباتات ألياف الجبال.أما الثروة الحيوانية فإريتريا غنية بها خاصة الإبل والبقر والماعز والضأن، كما تمتلك ثروة سمكية ومستخرجات البحري الأخرى.أما المعادن فيوجد بإريتريا الحديد والذهب والرصاص والنيكل، والملح المعدني، والاسبستوس، وأما النحاس فقد تولت استخراجه وتصديره شركة يابانية أثيوبية، وبدأت تصديره فعلاً.أما البترول فقد تم اكتشافه أخيرًا، وهناك شواهد بترولية كثيرة تبشر بالخير في هذا المجال.وإريتريا إقليم من الأقاليم الإسلامية التي كانت منبثة في شرق إفريقيا، وقد دخلها الإسلام من عصر الخلفاء عن طريق الدعوة والموعظة الحسنة، رغم ما تعرض له الدعاة من القتل والتعذيب، ورغم محاولة الأحباش الانقضاض على سواحل الجزيرة العربية، مما اضطر الأمويين في سنة 83ه إلى وضع أيديهم على جزائر (دهلك) في مواجهة شواطئ إريتريا حماية للمسلمين بها وبالساحل الشرقي الإفريقي، وتأمينًا للدعاة، ولما استتب الأمن تتابع دخول الإفريقيين في دين الله، وحيث حل الإسلام كان الإخلاء وكانت المحبة، فتزاوج مسلمو ساحل البحر الأحمر مع مسلمي الجزيرة، وصارت اللغة العربية هي لغة إريتريا، واستمرت مرتبطة بالدولة الإسلامية منذ سنة 83ه – أي أكثر من 1300 سنة.جاء في كتاب المنريزي (الإلمام بمن في الحبشة من ملوك الإسلام): إن منطقة (ياضع) – مصنوع حاليًا – كانت نابعة لولاية الحجاز، وظلت هكذا تتبع والي الحجاز حتى تمزقت الدولة العباسية على يد الشعوبيين ثم التتار.وهبت على هذا الساحل الإفريقي المسلم رياح الأحداث، وتكونت مملكة (الفرنج) الإسلامية التي اتخذت (سنار) عاصمة لها، وضمت معظم إقليم النيل الأزرق، ومناطق ساحل البحر الأحمر من (سواكن، فصوع، فعصب، فتاجورة، فيجبوتي، فبريرة)، فراس صافون) وتم لها ذلك في سنة 1504م، أي في مطلع القرن السادس عشر(1).ومرت سنون أصاب مملكة النونج ما يصيب الدول من الشيخوخة والضعف، فتوزعتها الأطماع، وكان الغرب المستعمر قد بدأ يتجه نحو إفريقية منذ أواخر القرن الثامن عشر عندما زار الرحالون مناطق السودان، وعندما تأسست الجمعية الإفريقية في لندن سنة 1788م. وبدأت انجلترا وفرنسا وإيطاليا تتحفز لالتهاب هذا الموقع الاستراتيجي الخطير. وشاء القدر أن يقدم محمد علي باسم الدولة العلية دولة الخلاف العثمانية لحماية هذه المناطق المسلمة من مواضع الاستعمار التي بدأت تعمل في أوصال القارت الأربعة تقطيعًا وتمزيقًا.وكانت حلقات مريرة من الصراع بين (مصر) ممثلة للدولة العلية وبين الدول الاستعمارية التي لجأت إلى الإيقاع بين دولة الخلافة ومصر كي ينقل إدارة هذه الأجزاء من مصر إلى والي جدة حتى يسهل على الاستعماريين التهامها بالاتفاقيات أو الشراء أو التأجير، كما كان شائعًا في ذلك الوقت، ولكن مصر وقفت لهم بالمرصاد صامدة، ونجحت في إقناع الخليفة العثماني بالتنازل نهائيًا عن إدارة هذه المناطق وضمها إلى مصر، وبهذا صارت هذه المناطق جزءًا من السودان الذي تولت مصر إدارة نيابة من الخلافة العثمانية.وفي سنة 1877م اضطرت انجلترا إلى عقد معاهدة مع مصر وضحت حدود السودان، وبمقتضى هذه المعاهدة وضعت خرائط رسمية معترف بها دوليًّا، وتبين أن (مصوع ومصب وجيبوتي وزيلع وهرر وبربرة ورأس صافون) كلها من السودان، أي من أملاك الدولة العثمانية(1).ومع ذلك لم ييئس الاستعمار واستمرت مؤامراته، فتقدمت انجلترا لرأس القارة ومدخلها (إلى مصر) ومارست دسائسها حتى أوقعتها في الديون، وبالتالي الاضطراب، ثم الثورة العرابية، ثم الاحتلال.وعندما تراخت قبضة مصر عن جنوبها وعن السودان بدأت الدول الاستعمارية تتوثب لتحقيق أطماعها القديمة في ساحل إفريقية الشرقي، فاحتلت إيطاليا (بيلول) في شمال خليج مصب، وقامت بالاستيلاء على المنطقة الساحلية قرب (مصوع) ومدت سيطرتها على باقي الأجزاء التي سموها فيما بعد باسم (إريتريا)، ووقَّع إمبراطور الحبشة معاهدة مع إيطاليا يقر ملكيتها لإريتريا، وأثناء ثورة المهدي بالسودان أرادت انجلترا أن تدعم علاقتها مع الحبشة على حساب السودان، فسمحت (لمنلبك) والي الحبشة بالاستيلاء على (هرر) وانتزاعها من الأملاك السودانية، ونجح هذا الملك في خطته وقتل ملك هذه المدينة المسلم سنة 1887م، ثم أرسل برقية إلى القائد الإنجليزي في عدن يفتخر فيها بقتل الأمير عبد الله حاكم (هرر)(2).وهكذا تم بتر هذا الجزء الساحلي من السودان، أي من أملاك الدولة العلية، دولة الخلافة، وتوزعته الحبشة وإيطاليا بالتآمر مع انجلترا.ومنذ مطلع القرن العشرين أخذت دولة الخلافة في الضعف والتدهور، وأخذ الاستعمار يلتهمها إقليمًا وراء إقليم: الجزائر وتونس وليبيا وسوريا لفرنسا، ومصر والسودان والعراق وفلسطين والأردن لانجلترا، وليبيا والصومال وإريتريا لإيطاليا، وشغل كل إقليم بنفسه وبمأساته.وفي أثناء الحرب العالمية الثانية سنة 1941م احتلت انجلترا (إريتريا) باسم قوات الحلفاء ضد دول المحور، وخضعت إريتريا للإدارة البريطانية التي دامت إحدى عشرة سنة ونصف سنة، إلى أن صدر قرار الأمم المتحدة في 2 ديسمبر سنة 1950م بفرض الاتحاد الفيدرالي بين إريتريا وبين أثيوبيا، وأصبح هذا القرار نافذًا من 15 سبتمبر 1952م، فأصبحت إريتريا دولة مستقلة تحت لواء التاج الأثيوبي.دور أمريكا في قرار الأمم المتحدة:بدأت خيوط المؤامرة الأمريكية الأثيوبية بخطوة غزل ذكي من جانب أثيوبيا، حيث قدم الإمبراطور هيلاسي رشوة صغيرة، فقد أهدى للسفارة الأمريكية قطعة أرض بجوار القصر الإمبراطوري في أثيوبيا، وقال: إنها عرفان مساعدة أمريكا والرئيس روزفلت لأثيوبيا في سبيل الحرية (كذا) في تلك الفترة كانت إريتريا تحت الإدارة البريطانية – كما قدمنا – بتكليف من المكتب الخارجي للمناطق الإفريقية.كانت إريتريا في ذلك الوقت مطمعًا لكل من فرنسا التي تريد توسيع مستعمرتها في الصومال الفرنسي، ولإنجلترا التي تريد ضمها إلى السودان الإنجليزي آنذاك مع ترك جزء للحبشة، وكانت أمريكا تحكم أيضًا أن يكون لها مكان في المنطقة وهي التي لم يكن دخلت ميدان الاستعمار بعد.وأما أثيوبيا فقد كانت تشعر بأنها أضعف الطامعين في إريتريا وأكثرهم شراهة في نفس الوقت، فتنتق ذهن الإمبراطور العجوز عن حيلة خبيثة تعوضه عن ضعفه، إذ ربط أثيوبيا بعجلة أمريكا، وعرض على أمريكا مشروعًا مؤداه أن يكون الملك والسيطرة على إريتريا لأثيوبيا، والانتفاع لأمريكا أو لهما معًا.ولما لم يكن لأمريكا مجرد شبهة أو وجهة نظر تتعلل لها لدخول إريتريا وجدت أن في خبث الإمبراطور وتدبيره ما يحقق لها ما تتمنى، فأخذت وجهة نظر الحبشة، وتبنت رأيها.وجاء إلى الحبشة أفويل هاريمان مبعوثًا من الخارجية الأمريكية سنة 1942م، وبحث ما يمكن أن تقدمه الحبشة إلى أمريكا إذا تم لها الاستيلاء على إريتريا، حتى يطمئن أولاً على ثمن الصفقة، وعلى الفور وافقت الحبشة على منح تسهيلات عسكرية في (أسمرا) لإنشاء مركز اتصالات واستخبارات.وفي مؤتمر الصلح سنة 1947م تقرر تشكيل لجان للبحث في شأن المستعمرات الإيطالية ومن بينها إريتريا، وبدأت اللجنة الأمريكية السوفيتية الإنجليزية الفرنسية زيارتها لإريتريا، وبالرغم من أنها شاهدت تلهف الشعب على الاستقلال والتقت بالزعماء الذين حملوا مطالب شعب إريتريا في التحرر والاستقلال التام، إلا أنها لم تتفق على رأي.وتنفيذًا لاتفاقية الصلح أحيل الموضوع إلى الأمم المتحدة في 15/9/1948م، وبدأت المناورات والمؤامرات في أروقة الأمم المتحدة، وتوالت لجان الدراسة والوفود والزيارات، ولما كانت النية مبيتة فقد عموا وصموا عما رأوا وسمعوا، وقدمت أمريكا مشروعها الذي قضي بإنشاء (اتحاد فدرالي) بين إريتريا وأثيوبيا للشعب الإريتري فيه أقصى درجة من الحكم الذاتي، ويشارك الإريتريون في حكومة اتحاد مشتركة (وهذا المشروع – كما أشرنا – يمكن للولايات المتحدة أن تؤمِّن مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة دون حاجة إلى احتلال مباشر).وكانت المواد التي تشير إلى استقلال إريتريا الذاتي والمشاركة في حكم اتحادي ...إلخ، مجرد بنود شكلية اتفق الطرفان: أمريكا وأثيوبيا على وضعها في النصف، حتى يخطر المشروع بموافقة الأمم المتحدة، ثم تتكفل حكومة أثيوبيا بإلغائها تدريجيًا وتنزع من إريتريا أية صبغة استقلالية كما حدث بالفعل.وانظر هنا نتائج وآثار التواطؤ الأمريكي الأثيوبي:في 2/12/1950م أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتحاد الفدرالي بقرارها رقم 390 بأغلبية 46 صوتًا ومعارضة كل قوى السلم والحرية.في 7/9/1951م (أي بعد أقل من مضي سنة) وقّع الجانبان الأثيوبي والأمريكي معاهدة لمنح أمريكا تسهيلات تجارية وعسكرية وبحرية في الأرض الإريترية، وذلك قبل إنشاء الحكومة الإريترية التي نصَّ قرار الأمم المتحدة على تشكيلها.في 22/5/1953م قام الإمبراطور هيلاسي بزيارة شكر للولايات المتحدة، وفي هذه الزيارة وقّع الطرفان الأثيوبي والأمريكي على اتفاقية خاصة تتمكن أمريكا بمقتضاها من أن تقيم في (أسمرا) - عاصمة إريتريا – أضخم قاعدة عسكرية للاستخبارات في إفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا طبعًا بالإضافة إلى الامتيازات والتسهيلات العسكرية للجيوش الأمريكية التي ليس لها مثيل إلا في الأراضي المستعمرة.قرار الأمم المتحدة وموقف أثيوبيا منه:من أعجب العجب أن تصدر الأمم المتحدة قرارها هذا بالاتحاد الفدرالي من غير حق، ولا مجرد شبهة في حق، فليس هناك أي رابطة بين أثيوبيا وإريتريا من أي لون أو نوع من الروابط، بل هو كما قدمنا ثمرة تواطؤ أثيوبي أمريكي.ومن العجيب الأعجب أن يأتي في ديباجة القرار: (إن الهدف الرئيسي من إصداره هو إعطاء أثيوبيا بحر إلى البحر) هكذا... تعترف الأمم المتحدة بأن هدف القرار وضع شعب بأكمله وأرضه تحت سيطرة دولة أخرى، كي تجد لها منفذًا على البحر.سيظل هذا القرار شاهدًا على طور من أطوار المنظمة الدولية كانت فيه واقعة تحت تأثير القوى الاستعمارية الكبرى. وإذا جاز هذا المنطق فلتعد كل دولة ذات نفوذ ما تحتاجه من أراضي الدول الأخرى.إن قرار الأمم المتحدة رقم (290/أ) الخاص بالاتحاد الفدرالي بين إريتريا وأثيوبيا ينص على أن إريتريا تتمتع بحكم ذاتي على أساس المبادئ الديمقراطية، وما يتبع ذلك من وجود دستور وبرلمان وحكومة منتخبة، لضمان حقوق الإنسان والحوريات الأساسية، كما أن للإريتريين حق الاشتراك في حكومة الاتحاد على أسس ومعايير تضمن القرار تحديدًا لها، إذ ينص القرار على أن يكون للحكومة الإريترية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في حقل الشئون الداخلية (المادة الثانية)، وعلى أن يتكون (المجلس الإمبراطوري الاتحادي) من عددين متساويين من الممثلين الأثيوبيين والإريتريين، ويشترك مواطنو إريتريا في الجانبين التنفيذي والقضائي لحكومة الاتحاد، ويمثلون الجانب التشريعي وفقًا لأحكام القانون وبنسبة عدد سكان إريتريا إلى عدد سكان الاتحاد (المادة الخامسة).وحتى هذا القرار الحائر وهذا الاتحاد الفدرالي الظالم لم يكف أثيوبيا، فأخذت طريقها إلى مسح قرار الأمم المتحدة وطمس معالم إريتريا تمامًا، وضمها إلى أثيوبيا، وبدأت خطواتها في ذلك الطريق مبكرًا في 15/9/1952م:تعرضت إريتريا لنظام ضرائبي جائر يهدف إلى خنق الحياة الاقتصادية وتحطيم الاقتصاد الإريتري.وأجبرت كبريات المؤسسات الاقتصادية على الانتقال إلى أديس أبابا، واضطرت القوى العاملة إلى الهجرة إلى السودان والسعودية.وحظرت نشاط الأحزاب السياسية.وحلت اتحاد العمال.وملأت السجون بالمعتقلين.وصادرت جميع الصحف المحلية.وألغت تدريس اللغات التجريبية والعربية في إريتريا، متجاهلة نص المادة الثامنة من الدستور الإريتري، تلك المادة التي وضعها خبراء الأمم المتحدة نزولاً على رغبة الجماهير الإريتريا، وخضوعًا لإصرارها.وفي 14/9/1958م أمر الإمبراطور بإنزال العلم الإريتري باعتباره رمزًا من رموز السيادة والشخصية الوطنية في إريتريا.واستمر الحكم الأثيوبي يلغي بالتدريج كل مظاهر الكيان الإريتري، ويفرض سيطرته على المؤسسات الدستورية، واستمر يتحدى مشاعر الشعب الإريتري وعقيدته.ففي أغطسس سنة 1960م صدر قرار بإلغاء المحاكم الشرعية، ليحاكم المسلمون أمام المحاكم الحبشية حتى في الشئون والأحوال الشخصية.كما صدر قرار بتعديل أحكام الميراث الشرعية وتغيير الأنصبة، كما نصَّ عليها الدين.كما صدر قرار بتغيير قوانين الأحوال الشخصية، فأعطيت المرأة حق خلافة زوجها، ومنع تعدد الزوجات، وحكم باقتسام أملاك الزوج والزوجة مناصفة في حالة الطلاق.وأخيرًا في 14/11/1962م أعلن الإمبراطور إلغاؤه لقرار الأمم المتحدة بإرادته المنفردة، وأعلن اعتبار إريتريا مقاطعة من مقاطعات أثيوبيا، فألغى الدستور كلية، وحل البرلمان، وجاء من أثيوبيا حاكم عسكري عام ليحل محل رئيس السلطة التنفيذية المنتخب، وتحول القضاء الإريتري إلى جهاز من أجهزة القمع الأثيوبية..كفاح الشعب الإريتري:وأمام هذا التواطؤ الأثيوبي الأمريكي الذي سخر بالأمم المتحدة لإصدارها قرارها، وإزاء هذا الاستبداد الذي لم يكفه قرار الأمم المتحدة الجائر وفعل به ما فعل، إزاء هذا كيف كان موقف شعب إريتريا؟؟لم يستكن الشعب الإريتري ولم يغفل عما يدير له، فقد بدأ يستعد ويتحفز ضد الحكم الإيطالي، فقامت الجمعيات الشعبية ثم تحولت إلى أحزاب سياسية عقب الحرب العالمية الثانية، ثم تابعت مناقشة القضية أمام الأمم المتحدة، وقد تكونت الكتلة الاستقلالية ردًّا على مشروع التقسيم الذي قدم إلى الأمم المتحدة من وزير خارجية بريطانيا وإيطاليا، ثم على مشروع الاتحاد الفيدرالي.وأخيرًا أعلنت الثورة المسلحة بعد ما فشلت جميع المحاولات السياسية والسلمية، فانطلقت شرارة الثورة الإريترية في اليوم الأول من سبتمبر سنة 1961م، وظلت الثورة تناضل وتجاهد في ظل أقسى الظروف وأبشعها، فقد استخدم الإمبراطور وسائل القمع والإرهاب لا تجوز في شرعة ولا قانون.ولقد شاءت الظروف أن أعيش عامين قريبًا من الحدود السودانية الإريترية، وسمعتُ بأذني من شهود عيان أن أجهزة القمع الأثيوبية كانت تدخل القرية الإريترية بعد إطلاق النار على أهلها فتسقط منهم من يسقط ويفر من يفر، ويؤسر من يؤسر، ثم تحرق القرية بعد استباحتها للجنود الأثيوبيين، ثم يقتل الأسرى، ويمثل بالجثث، فتقطع إربًا إربًا، ثم توضع في عربات النقل لترمى على قرى المنطقة لكل بيت عضو، إرهابًا وتحديًا وإنذارًا لكل من تحدثه نفسه بأن ينضم إلى الثورة بأنه سيلقى مثل هذا المصير.ومع ذلك صمد الشعب الثائر، وحققت ثورته نتائج، فثلج صدر كل الأحرار والأطهار.حررت الثورة ثلثي الريف الإريتري.دارت المعارك المسلحة في قلب المدن الإريترية أسمرا وعصب.استولى الثوار على كثير من معدات الجيش الأثيوبي الذي كانت وحداته تفر أمامهم كالخراف.وصل الكفاح إلى داخل أثيوبيا، فقد تعاطف مع الثوار جماهير من أجزاء أثيوبيا ومن جموع الطلاب والعمال وغيرها.فضحت الثورة التواطؤ الأثيوبي الاستعماري بعامة، والأثيوبي الأمريكي بخاصة.يبلغ من شمول الثورة وانتشارها أن اعترف بها الخصوم والأعداء الطبيعيون. قال تشارلز جلاس مراسل شيفاجو ديلي نيوز: إنه لمس بنفسه حماسًا بين الشعب الإريتري لقواتهن وان ما تواجهه أثيوبيا هناك هو ثورة شعبية (الأهرام 13/3/1970م).وما زالت هذه الثورة التحررية تجابه قوى عظمى شرقية شيوعية تقف وراء أثيوبيا وتدعمها واستعمارية غربية تضيء للشيوعية النور الأخضر لتتقدم لسحق الثورة الإريترية الإسلامية.أليست الثورة الإريترية ثورة إسلامية، وعندما يتعلق الأمر بالإسلام فإن الشيوعية والرأسمالية تتعاونان وتنسيان ما بينهما تمامًا، فإن الإسلام في نظرها – وهذا حق – العدو الأخطر للشيوعية الملحدة وللرأسمالية الاستعمارية الحاقدة في نفس الوقت.إسرائيل في إريتريا:لقد جمع أثيوبيا وأمريكا هدف واحد ثم جمع إسرائيل نفس الهدف، فقد رأى الإمبراطور الداهية أن لإسرائيل مصالح في البحر الأحمر، وأنها يهمها إخضاع هذا الساحل الذي يمتد نحو 1000 كم لأثيوبيا، وإلا فسيصير البحر الأحمر عربيًا تمامًا، وأن على إسرائيل أن تشارك في إخضاع إريتريا، وأن تؤدي دورها في هذه المهمة، ورحبت إسرائيل محققة بذلك عدة أهداف:من الناحية الإستراتيجية العسكرية تؤمن مسافة طويلة من شاطئ البحر الأحمر، أو قل تكسر حلقة من حلقات الحصار العربي في البحر الأحمر.ومن الناحية الاقتصادية – وهذا جانب هام جدًّا – عملت إسرائيل على نهب ثروات إريتريا وشرق السودان، حيث أن قبائل (الهدتدرة) و(بني عامر) و(الأمراء) قبائل سودانية إريتريا تعيش بين إريتريا وشرق السودان، وكل ما في أيدي هذه القبائل ينساب إلى نهر التجارة الأثيوبية الإسرائيلية.جاء في نشرة خاصة أصدرتها الحكومة الأثيوبية واسمها (الزراعة والصناعة والتجارة) في الحبشة الصادرة في يونيو 1957م: بدأت شركة (أنكودي الإسرائيلية) الضخمة أعمالها في أثيوبيا سنة 1955م، وهي أكبر شركة لتعبئة اللحوم في الإمبراطورية الأثيوبية، فلها من الآلات الميكانيكية ما يمكنها من إنتاج 250,000 علبة يوميًا من اللحم السعبأ بالإضافة إلى 300 طن من اللحم المثلج، و3500 من الجلود المدبوغة شهريًا، وللشركة مصانع لتحويل فضلات اللحوم والعظام والشحم إلى مواد أخرى نافعة.. وتنتج 100 طن سماد عضوي شهريًّا من هذه المخلفات، كما تنتج طنًّا ونصفًا من قطع اللحوم التي تزن الواحدة منها اثنين كيلوجرام للاستهلاك اليومي، وتعتبر مصانع شركة (أنكودي) من المصانع العالمية للحوم، ويذبح مصنع (أنكودي) في أسمرا – عاصمة إريتريا – يوميًا 360 بقرة يشتريها بأبخس الأثمان، ولها في أسمرا مصنع كبير لدباغة الجلود. وتصدر (أنكودي) إلى إسرائيل 5000 طن سنويًا من الأسماك المطحونة التي تستخدم لتسميد الأرض، ويزداد إنشاء الشركات الإسرائيلية في إريتريا، وقد أعطيت مناطق إريترية كمقاطعات لشركات إسرائيلية تستغلها كيف تشاء، ومن ذلك منطقة (عايلت) وهي تابعة لمديرية مصوع.ولا يقف التعاون الأثيوبي الإسرائيلي عند هذا الجانب، فقد عينت الحكومة الأثيوبية اليهودي الإسرائيلي (ناتان مادين) مستشارًا قانونيًا وهو أيضًا النائب العام المختص بوضع قوانين الدولة، وتستعين أثيوبيا بمدرسين من إسرائيل، وخبراء إسرائيل في التخطيط والزراعة والسدود تموج بهم أثيوبيا دائمًا.وفي مناقشات الكونجرس السرية ما يشهد بدور إسرائيل في محاولة جمع ثورة إريتريا، فقد جاء على لسان أحد الأعضاء ردًّا على (قولبرايت) حين سأل: إلى أي مدى شاركت أمريكا وإسرائيل في برنامج مقاومة التمرد؟ قال العضو ردًّا على هذا السؤال: كان ذلك مبادرة إسرائيلية، فالإسرائيليون يعلقون أهمية خاصة على علاقتهم بأثيوبيا حيث تمثل الدولة الصديقة الوحيدة على الجانب العربي من البحر الأحمر وعليه فالبرنامج اتخذ كبادرة إسرائيلية.عروبة إريتريا:إن عروبة إريتريا ليست محل نقاش أو نظر، ولسنا – العرب – الذين نقول بذلك، بل إن أهل إريتريا ينادون به ويفخرون، والواقع – قبل كل شيء – يقول بذلك، فنظرة إلى الخريطة نرى موقع إريتريا ينطق بعروبتها، فهي على ساحل البحر الأحمر بين الصومال العربي والسودان، وحين تقدموا بمذكرتهم إلى جامعة الدول العربية كانوا يعبرون أصدق تعبير بقولهم: "إن إريتريا هي فلسطين البحر الأحمر، وإن قوى الطغيان والشر تتربص بإريتريا لا من حيث كونها دولة تطالب باستقلالها، ولكن لأنها قبل كل شيء امتداد للوطن العربي وعمق استراتيجي ظهير لنضال العرب وصراعهم التاريخي.والآن: ما موقف القوى المحبة للسلام والمناصرة للعدل؟ وقبل ذلك: ما موقف الأمم المتحدة؟ ولماذا لا تتدخل؟ مع أن الفقرة (201) من التقرير النهائي لمندوب الأمم المتحدة تقول بالحرف الواحد: " إذا نقض القرار الفدرالي فإن القضية الإريترية يمكن أن تصبح عندئذ من اختصاص الجمعية العامة للأمم المتحدة).فلم لا تتدخل الأمم المتحدة الآن؟ إنقاذًا لهذه الملايين من الفتك والتنكيل.ومع كل ذلك وبعد كل ذلك: ألست معي أيها القارئ العزيز أن المأساة في حجمها الأكبر مأساة صمتنا الجاهل بما يجري لنا، أو جهلنا الصامت بما يراد لنا؟!