أصول الأفكار وجذورها
تابعت في إحدى الصحف اليومية معركة حول خطأ صلاح الدين الأيوبي في موقفه من إعدام (السُّهْرَوَردي) كان ذلك بين كاتب أديب وقاضٍ فاضل. ولستُ لتلخيص القضية، أو عرضها وإبداء الرأي فيها الآن.
وإنما الذي راعني هو أن يقع هجوم على صلاح الدين الأيوبي (الآن) في هذه الأيام بالذات، فقد جزعت أشد الجزع، وفزعت كل الفزع وأنا أرى هذا العنوان يتصدر موضوعات العدد الأسبوعي للصحيفة (إعدام حكيم الإشراق وإحراق مؤلفاته كان أبشع ما اقترفته يدا صلاح الدين الأيوبي).
وأنا على ثقة بأن الأخ الأديب لم يكن منتبهًا لما قال، أو بالأحرى لخطورة ما قال، وقد كان صادقًا كل الصدق حينما جعل عنوان رده ودفاعه عن نفسه (لستُ بالفقيه ولا المؤرخ .. وإنما أنا امرؤ شاعر).
والذي يلفت النظر حقًّا هو: كيف جمح القلم بصاحبه وهو يكتب عن الشعر والشعراء، واستطرد إلى دفع البطل صلاح الدين بما دمغه به.
لا شك أن هذا لا يكون إلا لأن هذا المعنى حيٌّ قائم في نفسه، مختزن في شعوره، وضمن مكوّنات ثقافته، ومفردات أفكاره، وجزيئات معلوماته!!
فمن أين جاءه هذا المعنى؟ ومن الذي ألصق هذه التهمة بدءًا بصلاح الدين قاهر الصليبيين؟
لقد ذكرتُ أني قرأت هذا الكلام من قبل، وحاولت أن أبحث عن مصدره في زوايا الذهن، وضنايا الذاكرة، فلم أستطع إلا أن الصدفة البحتة وحدها ساقت النص لي، فوجدته أمامي، وجدت أن صاحب هذا الكلام أصلاً هو (سلامى موسى) ذلك الصليبي المعروف في كتابه (حرية الفكر وأبطالها في التاريخ).
وأبدًا لا أريد أن أقول: إن الأخ الأديب الكاتب قد نقل عن (سلامة موسى)، فلو كان هذا لهان الأمر. ولكن المأساة أن كلام (سلامة موسى) هذا سري من قلم لقلم، ومن لسان للسان، ومن مكان لمكان، وصار متدًّا ولا معروفًا حتى أصبح (تراثًا) شائعًا لا ينسب لقائل، ولا يعرف له مصدر، وهنا مكمن الخطر، حين تسري الأفكار والآراء سريان السم البطيء، لا يتنبه له المصاب، وهو يفتك به ويمزق أحشاءه.
ولقد أدرك غزاتنا ذلك، فراحوا يلقون الفكرة ويبذرون الكلمة هنا وهناك، في غير تطلع إلى ثمرتها، وبدون دعوة إليها، أو محاولة حمل الناس عليها وشعارها (إن كانت هذه الكلمة تفرق اليوم في كل واحد فغدًا تقتلع الأوتاد).
إن الأفكار المسمومة تنثر نثرًا خبيثًا، وكأن صاحبها لا يعني بغرسها وريِّها وسقيها، ويظهر كأنه لا يريد جناها وثمرها، ولكنه يعلم أنها كالبذور التي تطوحها الرياح في الصحراء، يومًا ما سيأتيها مطرًا وطل، فتنبت، وتثمر، وساعتها لن يعلم أحد من كان وراءها، ومن بثّها، ومن هنا تكون الخديعة ويكون الخطر.
لقد كتب (سلامة موسى) هذا الكتاب عن حرية الفكر وأبطالها في التاريخ، جَلَد فيه تاريخ المسلمين حكّامًا وفقهاء وجماهير، ودافع فيه عن اليهود، لان هذه الكراهية (لهم) قائمة على عصبيات وأغراض قديمة تحتاج لتربية طويلة لقشعها عن الجماهير. (ص129).
كما دافع عن القرامطة والحشاشين، ومن نحا نحوهم وسماهم (أحرار المفكرين) الذين لا يرون في الدين سوى وسيلة لإذلال الشعب. (ص106).
وعنده أن جمهور المسلمين في الأندلس (أغبى جمهور في العالم الإسلامي كله، قد ركبه الفقهاء، واستغلوه لمصالحهم، ويوجهونه إلى أية ناحية يريدونها). (ص131).
أما صلاح الدين الأيوبي (فكان رجلاً كرديًا غير مثقف، فاستطاع الفقهاء أن يؤثروا فيه). (ص133). وعلى طول كتابه يدس السم في الدسم.
ولو أنصف (سلامة موسى) لقال: إن أبطال حرية الفكر في التاريخ ليسوا السهروردي، وابن رشد والقرامطة، وإنما كل مسلم معاصر في مصر المحروسة يعتبر بطلاً من أبطال حرية الفكر، إذ سمحوا له أن يكتب ما كتب عن دين الأمة وعقيدتها، وسخر من شريعتها ومبادئها، وطبع كتبه وباعها لهم وربح من أموالهم.
فليست هناك حرية فكر، بل (حرية إلحاد)، بل (حرية عدوان) بل (حرية خيانة)، بل (حرية تزييف) أكثر مما مارسه (سلامة موسى) بين المسلمين، وهم ساكتون، بل راضون، بل منهم من يطالب بتخليد ذكره وتسمية الشوارع والميادين باسمه..
وإلى الله المشتكى.
*****
** نشرت في الأمة، عدد صفر، سنة 1405هـ.
مقالات فكرية أخرى
التقارب السني-الشيعي…
إن أمتنا الإسلامية تتعرض الآن لحملة شرسة لم تتعرض لمثلها من قبل، فقد تجمع وتأشَّب الأعداء حولها من كل حدب وصوب، فباسم (محاربة الإرهاب) جمَّعوا كل أمم الأرض لمحاربة الخطر الأخضر، خطر الإسلام، تحقيقا لقول كبيرهم: "انتهزوا الفرصة". والحرب الآن –كما ترى- حرب خبيثة ماكرة، تتنوع أساليبها، وتتعدد ميادينها، بين حرب نفسية، وحرب فكرية، وحرب ثقافية، وغزو اجتماعي، وسياسي، واقتصادي، وعسكري.. وانظر وتأمل –على سبيل المثال لا الحصر- المغرب والبوليساريو، والجزائر والأمازيغ، والسودان ودارفور، والجنوب، والشرق، ومصر والتلويح بلجنة حماية الأديان، وانظر إلى العراق، وأفغانستان، وإلى باكستان، وإلى إندونيسيا. نحن أمام عدو ماكر خبيث، يتغلغل في كل المسارب والدروب، ليحقق ما عجز عنه طوال صراعه مع الإسلام، الصراع الذي بدأ منذ مؤتة وتبوك، ولم ينسه حتى اليوم. لقد غيرت البابوية العقيدة، وبرأت اليهود من دم المسيح، وتناسى الكاثوليك البروتستانت المعارك بينهم، وما سمي حرب الإرهاب الأبيض، حيث كانت القتلى بينهم بمئات الآلاف، بل إنك لتعجب كيف تناست فرنسا ما صنعه الجنود الألمان بعاصمتها الجميلة باريس، يوم اجتاحوها 1941م وعبثوا بها وبأهلها، واغتصبوا نساءها (قد يكون بعض من اغتصبن من الفتيات أحياء إلى اليوم). نسي القوم كل هذا، ونرى أقرب الدول إلى فرنسا هي ألمانيا، وهما معا تقودان الاتحاد الأوروبي، وهما عماده. هذا هو عدونا يتجمع ويتحد –على ما بينه من عوامل تفتت الصخر- فلننظر كيف نحن!! كان لابد من هذه المقدمة قبل الدخول في الموضوع، بل هي جزء أساسي في الموضوع. إن الإمام القرضاوي تنظر إليه الدنيا كلها على أنه رمز للأمة الإسلامية، وهو كذلك فعلا، فلم يكن في يوم من الأيام طائفيا، ولا متطرفا، بل هو رمز الوسطية وصاحبها. هو الذي حيَّا حزب الله، وأشاد بجهاده، وأثنى على نضاله، قال ذلك بصوت عال صريح، وكان لهذا التأييد والثناء من الأثر ما لا يخفى إلا على الجاحدين. وهو الذي تحدث أكثر من مرة على حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، واستنكر محاولة منعها من هذا الحق، كان يقول ذلك، ويصرح به بلا أدنى ملابسة. كما أدان فرض العقوبات الدولية من اقتصادية وغيرها على إيران، ودعا إلى عدم المشاركة فيها. وهو الذي نادى في أكثر من مناسبة بأنه ضد أي عدوان أمريكي على إيران، وضد كل من يساعد في ذلك. ثم من قبل كل ذلك هو الذي كان يقود محاولات التقريب ويدعو إليها، وما كتبه وما قاله مذكور مشهور غير منكور. والبيان الذي أصدره أخيرا كان هادئا متوازنا، يدعو إلى المحافظة على الوحدة ويحرم الاختراق، ويحذر من آثار ذلك، وقد نبه إليه من قبل في لقاءاته مع علماء الشيعة وأئمتهم، فأيدوه وشكروه. "لقد سمعت من حجة الإسلام محمد علي التسخيري –وهو يتكلم في شأن الوئام بين الشيعة والسنة- قوله: "المهم كف السفهاء من الجانبين". والآن نسأله: ماذا تقول لمحرر وكالة الأنباء الإيرانية؟ كنا نتوقع منه أن يتذكر كلامه هذا، وأن يصف هذا المحرر بما يستحقه صراحة، وأن يقول ذلك بصوت عال، بدلا من أن يطالب الإمام القرضاوي بالعودة إلى الاعتدال. أما السيد حسين فضل الله، فأنا أعجب له كيف سقط هذه السقطة؟ وكيف خانته حصافته؟ وكيف غاب عنه جهاد العلامة القرضاوي في الميادين والمجالات الذي اتهمه بالتقاعس عنها والهروب منها، وأنا لا أشك لحظة أنه الآن آسف ونادم على سقطته هذه. إن الإمام القرضاوي قال كلاما محددا واضحا، وكان على من يعقب عليه أن يلتزم أدب الحوار، وقواعد المناظرة، فكان يكفيهم أن يقولوا: إننا لا نعلم شيئا عن هذا المد الشيعي في مصر، ولا ندري من يقوم به، أو نحو ذلك، يعني يبقى الكلام في هذا الموضع، لا يتعداه، فهو موضع النزاع كما كان يعبر أئمتنا قديما رحمهم الله. أما هذا التجاوز، والتطاول، فأترك لهم أن يصفوه هم بأنفسهم، وأن يسموه باسمه، ولن نسميه نحن، فنحن دعاة وحدة ومصالحة، ولسنا دعاة فتنة وإثارة. والآن ماذا بعد؟ لابد من تدارك الأمر، فإن مسلسل الرد، والرد على الرد، والتعليق من هنا وهناك سيجر إلى ما لا نرضاه، وسيدفع إلى ما نخشاه، فكل عاقل مؤمن بالله، ويخشى على هذه الأمة، يعلم أن وحدة أهل القبلة هي السبيل إلى نجاتها مما يراد بها. ولذا نضع بعض الحقائق والضوابط عسى أن تكون أساسا لكبح ما انفرط: 1- إن الشيعة – مثل كل الطوائف والجماعات- ليسوا كتلة واحدة، ففيهم العقلاء الذين يؤلفون الكتب، ويدبجون المقالات، ويكتبون البحوث في تصحيح الشطحات، ورفض التجاوزات، وفيهم من يدرك خطورة تمزيق وحدة الأمة. منذ عقود وأنا أقول: لا يعنيني كثيرا ما يسمى (بالتقريب بين السنة والشيعة) بل لا يعنيني أصلا، وإنما الأهم عندي هو البحث عن أسس التعايش الذي يتطور ويتحول إلى تعاون. وكنت –وما زلت- أقول: يقوم الاتفاق على هذه الأسس الثلاثة: أولا: الكف عن سب الصحابة، فهذا يؤذي أهل السنة أشد الأذى. ثم هو ليس من مذهب الإمامية، فقد مضى أئمة آل البيت رضوان الله عليهم إلى ربهم، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه سب أحدا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأريد اليوم القول: لابد أن تكف هذه الفضائيات عن بث ما يثير المشاعر ويكدر الخواطر، ويدعو إلى الفتنة، من ذلك (الفولكلور) الذي برع مقدموه في استنفار صور وأحداث من التاريخ عمرها نحو ألف وأربعمائة سنة، وهي إما مخترعة مزيفة لا أصل لها، وإما مقطوعة عن سياقها وسباقها، ومضخمة بصورة دراماتيكية، أو مفسرة تفسيرا مصبوغا وملونا برؤية مقدمها، وكل ذلك –في الواقع- ليس فيه تعبد، ولا تقرب إلى الله ورسوله، ولكنها الإثارة فقط لا غير. 2- أن يحسن الشيعة معاملة أهل السنة بينهم، وأن يعطوهم حقوق المواطنة كاملة، وأن يحسن أهل السنة –بالمثل- معاملة الشيعة بينهم، ويعطوهم كامل حقوقهم. 3- أن يكف الشيعة عن نشر التشيع بين أهل السنة، وأن يكف أهل السنة عن الدعوة بين الشيعة، ولا يقتصر ذلك على العالم العربي وحده، بل في إفريقيا، وآسيا، وبلاد الغرب، فحيث يوجد من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يصح أن يتدخل في شأنه صاحب مذهب مخالف، والميدان فسيح أمام الجميع في الدعوة بين الوثنيين والملحدين. 4- يجب أن تتوقف فورا حرب البيانات والبيانات المضادة، فخطرها في إثارة المشاعر، وإشعال العواطف لا حدود له. 5- يجب أن ينفر من كل جانب طائفة من أهل الحل والعقد، وأن يتنادوا إلى اجتماع مغلق أولا لوضع خطة مدروسة ومحكمة لعقد اجتماع أوسع يضم مجموعة من العلماء والخبراء، بل المسئولين وأصحاب القرار، على أن يتكون برنامج هذا اللقاء من محورين: الأول: تنقية الأجواء، وتصفية هذا الذي كان. الثاني: البحث في الأسس الثابتة المتينة للتعايش والتعاون. وأعتقد أن القضايا الثلاث التي ذكرناها من قبل تصلح أساسا متينا لهذا التعايش، وتصلح مدخلا لهذا الحوار الذي يدور حول كيفية التفصيل والتنفيذ. (وتذكروا أننا نلهث وراء الحوار المسيحي، فليكن هذا أولا) وأرجو أن تتم هذه الاجتماعات والندوات بعيدا عن الضجيج الإعلامي، حتى لا تغلب عليها المظهرية والدعائية، وإنما يتم ذلك في هدوء وصفاء، وتذكروا ما يحيط بالأمة، واستجيبوا لقوله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
د. عبد العظيم الديب
التاريخ الإسلامي … المفترى عليه !!!
لم يتعرض تاريخ أمة للتشويه و التحريف ومثلما تعرض التاريخ الإسلامي, و لم يكن ذلك على يد المستشرقين و المتغربين فقط, بل أسهم في ذلك أدعياء التاريخ و أصحاب الأغراض الخاصة و هواة الروايات و الحكايات غير الموثقة التي تخدم المذهبيات. و لما كان التاريخ الإسلامي يمثل ذاكرة الأمة و حاضرها و مستقبلها, فإن تحريره يحتاج إلى منهج واع و رصين و معايير موضوعية نزيهة, إذ لا ينبغي أن تتقاذف كتابة التاريخ الآراء و الأهواء الشخصية, و التجارب الذاتية, و الدوافع التي تفتقد إلى التجرد و الحياد. في هذا الإطار جاءت الندوة المغلقة التي عقدت في القاهرة عام 2000للبحث مسألة منهج النظر في التاريخ الإسلامي, موضحة المخاطر و التحديات التي تواجه كتابة التاريخ الإسلامي و كيفية مواجهتها و أردت أن أكتب لكم ما جاء في تلك الندوة التي في نظري هامة جد هامة……… مغالطات و انحرافات استهل د. عبد العظيم الديب- أستاذ و رئيس قسم و الأصول بكلية الشريعة جامعة قطر- حديثه بالتأكيد على أن المستشرقين تحاملوا على الإسلام, و اتجهوا إلى كتب التراث باعتبارها الخرائط و الصور التي تصوغ عقولنا و عواطفنا و مشاعرنا و اتجاهاتنا و اهتمامنا, و حبنا و بغضنا, فهي المفاتيح التي عرفوا بها كيف يخططون لتدميرنا ثقافياً و اجتماعياً و اهتمامناً, و جاءت معظم أعمالهم في مجال التاريخ بمعناه العام التاريخ السياسي و الحضاري و الاجتماعي, و تاريخ الفرق و المذاهب و الرجال و الطبقات و الرجال و معاجم البلدان, و تركز اهتمام المستشرقين على تاريخ الفرق و الصراع بينها, و كانت لهم عناية خاصة بتاريخ الزندقة و الزنادقة و القفز من وراء العصر الإسلامي إلى التاريخ القديم لإثارة النعرات الإقليمية, و تمزيق وحدة الأمة الإسلامية. و تناول د. الديب قضية كتابة التاريخ, مشيراً إلى أن المعلومات حينما تكون مغلوطة تؤثر تأثيراً خطيراً في التوجيه الفكري و النفسي, لأن الإنسان يتصرف بمشاعره و عواطفه أكثر مما يتصرف بعقله, فالتاريخ مجموعة معلومات و نسق فكري و ثقافي معين يتلقاه الإنسان و يسيطر عليه, و يربى عنده اتجاهاً ثم اهتماماً ثم عاطفة ثم يملك عليه قلبه, و من ثم يتصرف بهذه الطريقة, و هذا هو الفرق بين الفكر و الإيمان, فصاحب الفكر لديه مقدمات و قياسات تقول أنه صحيح, و لكنه ينتهي عند هذا الحد, و أما صاحب الإيمان فينتقل بعد ذلك إلى مرحلة أخرى , و هي التطبيق و التنفيذ, و لذلك نجد القرآن الكريم يقول (( فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون))[ الأنعام:33], فعقلاً هؤلاء مصدقون لا يؤمنوا, و لعل القرآن الكريم أشار في مواطن كثيرة إلى أن القلب هم مكان الفقه و الفهم و الفكر, فهذا يدل على أن القضية لابد من أن تنتقل من العقل إلى القلب, و لذلك فإن الاستعانة بمعلومات خاطئة في كتابة التاريخ يترتب عليها مشاعر و عواطف بائسة تجاه تاريخنا الإسلامي نستطيع أن نلمح هذا في أحاديث الدعاة, إذ أنهم لا يتجاوزون في استشهاداتهم عهد عمر بن الخطاب, و هذه كارثة لما تحمله من تصديق و أخذ بالكلام الذي يثار حول التاريخ من عدم وجود فترات مشرفة لدى المسلمين في طريق النهوض الحضاري عدا فترة عمر رضي الله عنه. كما نجد أن معظم كتب التاريخ محشوة بمغالطات و انحرافات تردد عثمان بن عفان خان مال الأمة و أعطاه لبني أمية و أنه ولى أقاربه رقاب الناس, و انتشرت في عهده المحسوبية, و أن بني أمية قاتلوا من أجل السلطة, و أن يزيداً قتل الحسين, و انتشر الاستبداد في عهد بني أمية, و هارون الرشيد كان مترفاً و لديه جوارٍ كثيرات, و المماليك كانوا جهلة و الأتراك كانوا مستبدين, و للأسف بعض المسلمين يسلمون بهذه المعلومات المخرفة إذا اطلعوا عليها, و تبرز هنا خطورة الادعاء بأنه لا يوجد نموذج إسلامي لنظام دولة تقوم على الحكم الإسلامي!! فلابد مع تجلية التشريع الإسلامي و تأكيد صلاحيته لكل زمان و مكان, و أن نثبت أن هذا التشريع قد نجح و طبق, و أن الأمة سارت بهذا التشريع نحو ألف عام و قادت به البشرية, و لذلك حينما نقول إن الإسلام يحكم على المسلمين, و المسلمون لا يحكمون على الإسلام, نكون أغفلنا بديهية قائدة و هي أن الأمة الإسلامية و الحضارة الإسلامية قامت و قادت الدنيا, و ارتادت البشرية كلها بالحب و العلم و الفكر و الفن و الإخاء و المودة و ذلك نحو ألف عام. أسطر قليلة لها قيمة كبيرة ينبغي أن نبحث عن هذا التاريخ-يستطرد د.الديب- و أن نطهره و ننقيه من الشوائب لأهميته, حيث إن الأمم الواعية عرفت كيف تهتم بالتاريخ, فمثلاً في عام 1984م نشرت الصحف أن الصين حشدت جنودها على حدود اليابان بسبب أن اليابان أرادت أن تغير بضعة أسطر في تاريخها, و هذا الخبر منشور في كتاب " التربية عند اليابان". و ذلك أنه في عام 1945م عندما انهزمت اليابان, أحضر ماك آرثر- قائد القوات الأمريكية- عدداً من خبراء التربية(حوالي 17 خبيراً) وضعوا مناهج تاريخ الأمم, و هي معلومات التي تؤثر في العواطف و المشاعر و تكوين الاتجاهات لدى المجتمع, و كتبوا في منهاج التاريخ أن الجيش الياباني كان معتدياً على الصين, فأرادت اليابان إعادة صياغة الكتابة فإذا بالصين تنذر و تحشد الجيوش لتظل هذه الأسطر موجودة!!!! و في هذه الواقعة يظهر لنا حرص الصين و معرفتها بمصادر القوة الحقيقية للأمم و المتمثلة في القوة الفكرية لا في الجيوش و الأسلحة. و أمامنا مثال آخر للمغالطات التاريخية التي نعيشها, حيث أن جمهورية مصر العربية كانت تحتفل بالحملة الفرنسية – و من المعروف عند تاريخ المصريين أنه يقول أن نابليون جاء بأول مطبعة و عمل بمصر أول خريطة- و هذا الكلام ليس صحيح البتة, و يدخل في جزئية تاريخية, حيث إن المطبعة كانت معروفة في الشرق قبل نابليون بأكثر من مائة عام, و لا أدري ما السر الذي يجعلهم لا يذكرون المطابع العربية التي كانت موجودة قبل نابليون حيث كانت هناك ثلاث مطابع في الشام, و في اسطنبول العاصمة, و التي كان يزورها كبار الشخصيات المصرية, و كذلك كان لهذه المطابع فرمان بنظم عملها.. و في التاريخ المصري العديد من المغالطات التاريخية و ذلك يرجع للطبيعة الاستعمارية, و التي شوهت تاريخنا فهناك كرومر الذي سألوه عندما دخل مصر عن حجم الأموال و السلاح الذي يحتاجه لتثبيت أقدامه في مصر فقال أريد خبراء تربية, و جاء فعلاً دانلوب- القسيس- الذي كانت له بصمات واضحة في تاريخنا, و رومين دبرال - شخصية لم تدرس في التاريخ- و الذي قال" يستحيل الانتصار على المسلمين بالسلاح, لأن الانتصار عليهم لن يكون إلا بالمنصِّرين, و سنبغي أن نستبدل الكلمة بالسلاح و الجند" و أسس مدرسة فكرية تقوم على التنصير و الروح الصليبية مما كان له تأثير واضح في بلاد أرض الكنانة (مصر الإسلامية)
د. عبد العظيم الديب
ألقـــوا هـــذا
وفي حديث أنس - رضي الله تعالى عنه – أنه قال: "إذا كان يوم القيامة، جاءت الملائكة بصحف مختمة، فيقول الله عز وجل: ألقوا هذا، واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: وعزتك ما كتبنا إلا ما كان. فيقول الله عز وجل: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم إلا ما كان لي". يا ويلنا !! إن الناقد بصير (سبحانه وتعالى)!! الملائكة تكتب، الحفظة تسجل، الصحف تمتلئ، ولكن !! من لنا إلا نفاجأ يوم الفزع الأكبر، بالهول الأعظم: "ألقوا هذا" . إن الملائكة خلقٌ من خلق الله، مثلما نحن خلقٌ من خلقه سبحانه، هم حفظة، وهم أمنة، يكتبون ما كان. أما "لم كان" فأمره إلى الله وحده يعلم ما في الصدور وما توسوس به الأنفس. وقد ورد "إن الملائكة يرفعون عمل العبد، فيكثّرونه ويزكونه، فيوحي الله تعالى إليهم: أنتم حفظةٌ على عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي لم يخلص في عمله، فاجعلوه في سجّين (كتابٌ جامع لأعمال الفجرة من الثقلين). وإن الملائكة ليصعدون بعمل العبد يستقلّونه (أي يرونه قليلاً)، فيوحي: إنكم حفظة على عمل عبدي، وأنا رقيبٌ على ما في نفسه، فضاعفوه، واجعلوه في عليين. هذه هي المقاييس!! وهذه هي الموازين!! هذا على كثرته في سجّين، وهذا على ضالته وقلّته في عليين، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}[الأعراف:8]. يستطيع من يستطيع أن يخادع الناس، فيرفع رايات الحق، ويحمل لواء الإصلاح، ويلبس مسموح الهداة، وشارات الأئمة، ويتخذ سمت الدعاة، ويتشدق بكلام المصلحين، بل قد يذهب إلى أبعد من هذه المظاهر، والطقوس، فيعمل من الخير والبر، ومن التعبد والتنسك، ما ينال به حسن الذكر، وطيب الأحدوثة. ولكن هيهات هيهات !! كل ذلك يكون في "سجّين" والعياذ بالله.. ومن هنا ورد في الحديث أول ثلاثة تُسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ. وشهيد. ومتصدق. نعم قارئ !! أيْ قارئ للقرآن عالم به معلّم إياه، فيقول: يا رب قرأتُ القرآ وفقهته وعلمته!! فيقال له: نعم، ولكنك فعلت ليقال فلان قارئ، وقد قيل. ويؤمر به فيسحب على وجهه في النار!! ويؤتى بالشهيد .. نعم شهيد!! فيقول: يا رب قاتلت في سبيلك، وجاهدت حتى قُتلت!! فيقال له: نعم، ولكنك قاتلت ليقال جريء ويقال شهيد، وقد قيل، ويؤمر به فيسحب في النار على وجهه. ويؤتى بالمتصدق، نعم متصدق!! فيقول: يا رب أنفقت مالي في سبيل مرضاتك، أديت الزكوات المفروضة وتصدقت، وأعنت، وبذلت في سبيلك!! فيقال له: نعم، ولكنك تصدقت وأنفقت ليقال متصدق، وليقال منفق، وقد قيل، ويُؤمر به فيسحب على وجهه في نار جهنم!! هذه أفضل القربات: القرآن وعلمه، الجهاد والشهادة، البذل والصدقة، تردَّ على أصحابها – والعياذ بالله – ما لم تكن خالصة لله سبحانه ويؤاخذون بها. وصدق الله العظيم: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:5]، ولعظمة الإخلاص وعزته قال - صلى الله عليه وسلم – لمعاذ - رضي الله تعالى عنه - : "أخلص دينك يكفيك العمل القليل". وكان الصالحون من سلفنا الكرام يقولون: "طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا وجه الله تعالى". ونحن اليوم تتوزعنا هذه الحياة بمنازعها، مشاربها، وتتفرق بها السبل وتتشعب، وتثور بها الأهواء، وتتجاذبها الأغراض، وسبحان من ينجي. فلينظر المرء في نفسه، إذا قال، وإذا أشار، وإذا خطا، وإذا جلس، وإذا قرأ، وإذا كتب، وإذا ... وإذا... فلينظر المرء في عمق قلبه، وليعلم أنه سبحانه وتعالى مطلعٌ على خفيات الضمائر، ومكنونات النفوس، ولنتذكر أنه سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأنه جل وعلا أغنى الشريكين عن الشرك. سبحانك ربي لا ملجأ منكم إلا إليك.. وعذرًا قارئ الكريم: إذا قطعت ما كنت بسبيله من حديث، لأذكّر نفسي – قبل أن أذكر غيري – بهذا الذي قلته اليوم، وأسأل الله لي ولك السلامة من الزلل، والخطل، إنه سميع مجيب.