مقالات تاريخية

إنهم يقرءون التاريخ بأثرٍ رجعي

switch off icon switch on icon

حينما تكون الأمم في مرحلة الصعود والنهضة تعرف كيف تقرأ تاريخها، وكيف تستلهمه وكيف تجعله زادًا وعمادًا لحاضرها، وتعرف تقدمه لأبنائها. 

أما حينما تكون في مرحلة الانهيار وفي طريق الانحدار فإنها تضيع  فيما تضيع من مقومات النهضة  تاريخها، ولا تحسن قراءته، والاتعاظ والاعتبار به، وصدق الله العظيم حين قص علينا قصص الأولين، فعقب القرآن الكريم: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.. ورحم الله شوق حين قال: “مثل القوم أضاعوا تاريخهم *** كلقيطٍ عيّ في الحيِّ انتسابًا”. وحين قال: “من يصن مجد قومه … فقد صان عرضًا”. 

وأخذ هذا المعنى فصاغه نثرًا أديب العربية وعملاقها عباس محمود العقاد فقال: “التاريخ عِرضُ الأمة”. وأمتنا  واللهم لا اعتراض  قد عرفت كيف تمزق تاريخها، وكيف تُشبعه ركلاً وصفعًا وتمزيقًا وتشويهًا. 

لم يقتصر ذلك على الكتابة والدراسة والتدريس فقط، بل تعداه إلى الأغاني والمسرحيات والأفلام، والمقالات الصحفية اليومية. 

صار كل مقهور عاجز لا يستطيع أن يبدي رأيًّا في أتفه أمور حياتنا اليومية، ومصائبنا الآتية  مؤرخًا ومفلسفًا للتاريخ !!  ومفرغًا كل عجزه وهوانه على تاريخ أمتنا وأمجادها، ولست بم يسمي علماء النفس هذه العاهة النفسية الخبيثة فأترك لهم أمر تسميتها. 

لم يعرف هؤلاء حرمة التاريخ (وقداسته) التي بلغت بأمة مثل الصين في سنة 1984م أن تهدد جارتها العملاقة، ويصل الأمر إلى تجميد العلاقات وسحب السفراء، والتهديد بإلغاء كافة الاتفاقيات، بل والحرب إن لم ترجع اليابان عن تغيير عدة سطور في كتاب التاريخ الذي يدرس في المدارس اليابانية. 

نعم عدة أسطر في كتاب التاريخ تثير أزمة، وأي أزمة بين العملاقين (الصين) و(اليابان)، أما أمتنا المنكوبة فتاريخها (عِرضها) مستباح، وإلى الله المشتكى. 

من وسائل تشويه التاريخ: 

لن أتحدث اليوم عن كل وسائل تشويه تاريخنا من تجهيل وانتقاد وسوء تفسير، بل الاختراع والتزييف، ناهيك عن الإسقاط.. 

لن نتحدث عن ذلك، فتلك وسائل قد رُصدت وصار عنها حديث ومراجعات لبعض المرابطين في الموقع الفكري يزودون عن كرامة أمتهم وقليلٌ ما هم. 

وإنما نتحدث اليوم عن بدعٍ جديد، وأعن به: 

قراءة التاريخ بأثر رجعي: 

مدخل:  

نحن نعيش اليوم حالة من الازدواجية المرضية، فنتحدث عن المصير الواحد و التاريخ واللغة الواحدة، والمستقبل الواحد للأمة العربية – بل وأحيانًا الأمة الإسلامية  نعزف هذا اللحن البهيج في المناسبات العامة عند اللقاءات والزيارات وعقب المباحثات والمؤتمرات، وأحيانًا عند الشجب و(الاستنكار) لما يُشجب ويُستنكر من العدوان والامتهان الذي يقع على أمتنا هنا أو هناك، من حين لآخر. 

فإذا لم تكن مناسبة من هذه المناسبات (القومية) – فنحن إقليميون حتى النخاع  ننظر إلى حدودنا الإقليمية، وكأنها ليست خطوطًا وهمية، ننظر إليها على أنها خطوط التمايز، وكلٌ خلق خطوط ينظر (للآخرين) على أنهم (آخر) وكلٌ يجد في نفسه (سمةَ) امتياز (وآية) تفوق يعلو بها على (الآخر). فهذا أكثر مالاً وأوفر ثروة، وذاك أعز نفرًا وأكثر جندًا، وهذا أكثر عراقة وأعمق حضارة، وهذا أوسع أرضًا وأكبر مساحة … إلخ. وكلٌ يرى أنه وحده، و(الآخرون) هم الجحيم. 

قراءة التاريخ: 

في ظل هذه الإقليمية الضيقة والانكفاء القميء على الذات، تتضخم الذات ولا ترى إلا نفسها، وحين تقرأ التاريخ تقرؤه بأثرٍ رجعي، لا ترى فيه إلا نفسها، حتى قبل أن يوجد لهذا الإقليم اسم ولا رسم، وأن تخلق حدوده الحالية. 

نموذجان لهذه القراءة: 

  • الأول من مصر. 
  • والثاني من السودان. 

وأحب قبل أن يغضب مني السودانيون ويتهمونني بأني أنكر عراقة سودانهم، وقبل أن يتهمني (المصريون) في مصريتي ووطنيتي، أحب أن أؤكد أن ذلك ليس فيه انتقاص لا من مصر ولا من السودان، وحاشاي أن يكون ذلك مني، وكي يطمئن هؤلاء وهؤلاء فليعلموا أن كثيرًا من الدول العربية لم تكن بحدودها التي عليها الآن قبل القرن العشرين، بل بعضها لم يكن له وجود ولا حدود أصلاً. 

وليس هذا عن الدول العربية فقط، بل إن كثيرًا من الدول الأوروبية ينطبق عليها هذا القول مثل إيطاليا وألمانيا والنمسا وفرنسا ويوغسلافيا وغيرها، وهم حينما يذكرون تاريخهم ومراحل توحد دولهم ونشأتها لا يصيبهم اكتئاب ولا ينالهم رهق ولا ذلة. 

فليهنأ المصريون وليهنأ السودانيون.. 

النموذج الأول من مصر: 

من المعلوم أن الجيوش الإسلامية التي قادها “سيف الدين قطز” وردَّ بها جحافل التتار في معركة (عين جالوت) سنة 658هـ، هذه الجيوش خرجت من مصر، بقيادة سيف الدين قطز الأمير المملوكي.  

كانت مصر في ذلك التاريخ إحدى ولايات الخلافة العباسية مثلها في ذلك مثل كل بلاد العالم الإسلامي. حيث كان هذا العالم المترامي الأطراف يدين للخلافة المركزية في بغداد بالطاعة والولاء، وإن كانت هذه الولايات تتمتع بنوع استقلال يضيق ويتسع بحسب قوة أمير الولاية وإمكاناتها، ولكن هذا الاستقلال (الجزئي) لم يسمح في يوم من الأيام بقطع الصلة مع الخلافة في بغداد، فمهما بلغ الضعف بالخلافة لم يكن يتولى حاكم ولاية إلا بمرسوم من الخليفة في بغداد، وما كان يكتسب شرعيته إلا من تولية الخليفة إياه. 

وما كانت تشعر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية أنها منفصلة عن دولة الخلافة، كانت حرب الخلافة حرب كل الولايات، وسلمها سلم كل الولايات، وحرب أي ولاية حرب الخلافة وحرب كل الولايات، وما كانت هذه الإقليمية البغيضة قد ظهرت، وكان (السكان) ينتقلون من ولاية إلى ولاية بحسب ظروفهم، وأعمالهم، وتجاراتهم، ورغباتهم، ويقيمون في مصر، أو في الشام، أو في إفريقية، أو في المغرب، أو في العراق، أو في الحجاز، كل دار الخلافة الإسلامية دارهم.. فأين الإقليمية إذًا.. هذا هو الوضع الواقع آنذاك. 

جيش مصر: 

يكتب الكتَّاب المصريون عن معركة (عين جالوت) فيصورونها وكأنها كانت معركة بين (مصر) والتتار، فيتحدثون عن جيش مصر، وعظمته، وشجاعته، وكيف أن مصر صنعت ما عجز عن (العراق) و(الشام)، فأوقفت زحف التتار وأذاقتهم الهزيمة أول مرة، بعد أن حطموا بغداد، ومزقوا العراق، واكتسحوا الشام كله، واجتاحوا دمشق، أما (مصر) فهي وحدها التي استطاعت رد التتار، “فأنقذت العالم كله من شرهم، وحمت الحضارة البشرية من تدميرهم”. 

ولستُ أدري كيف كانت مصر العظيمة العملاقة هذه عاجزة عن أن تلد قائدًا يقود جيشها، مصر التي أنجبت هذا الجيش الأعظم، لا أدري، ولم يدر مؤرخو هذا الزمان  كيف عجزت عن أن تنجب بطلاً من أبنائها يقود جيشها !!  كيف يسمح هذا الجيش لذلك المملوك (العبد) أن يقوده، هو والمماليك الآخرون (الظاهر بيبرس ورفاقه). 

أليس ذلك أمرًا عجيبًا؟!! 

إن هذا الجيش لم يكن ابن مصر، ولكنه كان ابن الإسلام، والصيحة التي أطلقها في ميدان المعركة وسجلها التاريخ كانت (وا إسلاماه)، ولم تكن (وا مصراه). 

؟؟؟؟؟؟ أنوف البعض ويقولون: إن أهل مصر الأبطال الأشداء كانوا عماد هذا الجيش، وهم خير أجناد الأرض كما روي وصفهم بذلك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . وقد تقول: نعم، ولكن تقول أيضًا: إنها لم تكن معركة مصرية بأي حالٍ من الأحوال، ولم تكن المسألة مسألة أرض وتراب ووطن، وإنما كانت مسألة عقيدة ودين، ومن يرجع إلى الحوار الذي دار بين سيف الدين قطز ورسل التتار وبين سيف الدين قطز والأمراء – أمراء المماليك – يدرك فعلاً أنها العقيدة التي جمعت بين هؤلاء جميعًا، الذين كانوا يسكنون مصر، سواء من كان طارئًا عليها أو أصيلاً من أهلها. 

فتصوير هذا الجيش (الإسلامي) بأنه جيش مصري، وأن المعركة معركة مصرية، وأن مصر هي التي انتصرت، تصوير مزيف، نشأ عن هذه المشاعر الإقليمية الضيقة، وهي التي جعلتهم يقرءون التاريخ بأثر رجعي. 

تناقض: 

ويظهر أثر هذه القراءة (المرتدّ) فيما ينشأ عنها من تناقض، حينما يتحدثون عن (احتلال) المماليك لمصر، وصراع مصر للمماليك وما تجرّعه الشعب من مآسي. 

وآخر ما كان من ذلك (مسلسل) تلفيزيوني بلغ نحو ثلاثين حلقة، كانت تبدأ الحلقة كل يوم بأغنية حزينة تندب ما أصاب القاهرة من المماليك، ومع الكلمات الباكية، والصوت الحزين والموسيقى والمؤثرات الصوتية والضوئية، وتأتي الكلمات مكشوفة عُريانة مثل (يا ما قاسيت يا قاهرة) يقولها المطرب باللهجة العامية، وكأنه يستثير كل ذي كرامة ونخوة لكي يثأر لوطنه وعاصمته. 

ثم تأتي حلقات المسلسل فتصور عصر المماليك وقد ضرب الفساد فيه أطنابه، وفشا الخل في كل نواحي الحياة، وفي مبالغات فجة، تجعل كل ذي عقل لا يصبر على متابعة هذا التزييف. 

ولكن السؤال يطرح نفسه متحديًا هؤلاء: هل كانت أيام المماليك أيام عزٍّ ونهضة وأمن وأمان، فأنجبت الجيش الذي حاز النصر الأغر في عين جالوت، أم كانت أيام فساد وإفساد؟ فإن كانت كذلك فكيف أنجبت هذا الجيش؟ .. ولكنه الخط والتزييف. 

مصر المملوكية: 

لقد كانت فترة الحكم المملوكي لمصر وهو نحو (    ) من أزهى فترات التاريخ، فقد عرفت مصر في هذه الفترة ذلك الوجه الحضاري الذي لا تزال آثاره حتى اليوم، فمن ناحية العلم والمعرفة خلف لنا عصر المماليك آلافًا من الكتب الأمهات، مما جعله بحق جديرًا بأن يسمى عصر التأليف الموسوعي، ويكفي أن نشير إلى أن من نتاج هذا العصر: 

  • لسان العرب لابن منظور. 
  • وفتح الباري لابن حجر. 
  • وعمدة القاري للعيني. 
  • ونهاية الأرب للنويري. 
  • وتفسير القرطبي. 

وسنحاول – إن شاء الله تعالى  أن نصور بيبلوجرافيا خاصة بنتاج عصر المماليك، عسى أن يكون في ذلك تصحيح أو رفع لهذا الظلم. 

وما أظن العلم والتأليف يعيش مع الفساد والإفساد، ولولا الطمأنينة والرخاء والأمن والأمان، ما فرغ عالم لمحبرته وأوراقه. 

أما المدارس والمكتبات العامة، فقد حظيت من المماليك بالرعاية الكاملة  

(لم يكمل) 

 

 

ودع عنك هؤلاء الذين يختزلون مئات السنين في حادثة أو واقعة يرونها بمنظارهم الأسود، ويسحبونها على العصر كله، مثلهم في ذلك مثل من يزور القاهرة (الآن) فلا يرى ما يتحدث عنه إلا شارع الهرم، ويسحب كل هذا العار على وجه القاهرة كلها، وهو في هذا غير صادق وغير منصف. 

د.عبد العظيم الديب